الدكتور نادر الحمامي يعلق على خطاب الرئيس في عيد المرأة
مقالتي اليوم الثلاثاء 18 أوت 2020 حول خطاب الرئيس يوم 13 أوت 2020، وهذا النصّ كاملا:
ربّما عليّ في البداية أن أشير إلى أمرين.
بالنسبة إلى الأمر الأوّل فإنّني بصفتي مواطنًا تونسيّا اخترت العزوف طواعيّة عن المشاركة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة بعد أن كنت من جماعة “صفر فاصل” تمامًا في الدور الأوّل. وسبب عزوفي الأساسيّ هو تصنيفي لرئيس الجمهوريّة الحالي الأستاذ قيس سعيّد في خانة المحافظين بناء على ما استمعت إليه في تصريحاته القليلة وظهوره الإعلامي النادر وفي المناظرتين الأولى والثانية. كان المترشّح آنذاك، وفي كلّ مناسبة، يؤكّد لي مرّة بعد أخرى أنّ مواقفه من مسألة الحريّات الفرديّة والقضايا الحقوقيّة ملتبسة وغير واضحة، في البداية، إلى أن تبيّن لي بما لا يدع مجالاً للشكّ، عندي على الأقلّ، أنّ مواقفه تلك مناقضة تمامًا لما أعتقده ولما أدافع عنه. وحتّى لا أطيل فإنّ مواقفه في تلك المجالات لا تنسجم مع مبدأ لا يقبل التفاوض أو المساومة أو التأجيل لديّ، وهو مبدأ المساواة المطلقة والتامّة بين المواطنين والمواطنات أمام القانون، والقانون الوضعي دون غيره في كلّ المجالات ودون استثناء، ودون أيّ اعتبارات هوويّة أو جندريّة أو جهويّة أو عرقيّة أو غيرها، ودون أولويّات أيضا، أو تراتبيّة، بين الحقوق الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة إذ لا تقوم إحداها إلاّ بأخواتها. كان ذلك هو المقياس المحدّد بالنسبة إليّ لعدم انتخابي للرئيس قيس سعيّد في الدور الأوّل الّذي شاركت فيه بانتخاب مترشّح آخر كان من الأواخر واخترته نظرا إلى مواقفه الواضحة من مسائل الحريّات الفرديّة وقضيّة المساواة، ومقاطعتي للدور الثاني بحكم أنّني لا أؤمن بمبدإ اختيار الأقلّ سوءًا.
أمّا الأمر الثاني الّذي أردت الإشارة إليه فهو أنّني لم أكن لأعلّق تماما على خطاب السيّد الرئيس لو لم يكن ذلك الخطاب أشبه بمداخلة في محفل علميّ أو على مدارج الجامعة تمسّ رأسا جانبا مهمّا ممّا يشغلني أكاديميّا وبحثيّا ويلامس قسما من مشاغلي ومن بينها قراءة الموروث الديني والحضاري، لا لغاية قراءته في حدّ ذاته، بل لمحاولة الإسهام ولو بقسط متواضع وبدافع المسؤوليّة الشخصيّة في الانخراط في هموم مجتمعنا التونسي، على وجه الخصوص، والمشاركة في النقاشات المجتمعيّة في هذا الفضاء العمومي. وبناء على ذلك فإنّ تعليقي على الخطاب/ المداخلة هو أشبه بتعليق على محاضرة تتضمّن أفكارا فيها ما أتبنّاه، ومن ضمنها ما أخالفه مخالفة جذريّة لتعارضها مع مبادئ أساسيّة تحدّد رؤيتي للعالم.
****
إذا ما رمنا تصنيف خطاب الرئيس ضمن أشكال الخطاب، أو حتّى النصوص، كما دأبنا على ذلك في الجامعة، أمكننا تصنيفه ضمن الخطابات الحجاجيّة بامتياز وأمكننا أيضا تقسيمه إلى قسمين كبيرين يخيّب قسمه الثاني “أفق انتظار” القسم الأوّل. إذ جاء القسم الأوّل تقدّميّا حداثيّا ليكون القسم الثاني محافظًا ماضويّا “نصّانيّا”. ولنقل بصورة مباشرة أنّ القسم الثاني يقضي تمامًا وكلّيّا على القسم الأوّل ممّا يجعله هو المقصود بالخطاب والكاشف عن قناعات السيّد الرئيس في ما يتعلّق أساسا بمسألة المساواة.
كان الكثير منّا وهو يستمع إلى الخطاب يصنع أفق انتظار لما سيؤول إليه الأمر بعد دقائق، وربّما كان يمنّي النفس بأن تفتح الأدراج المغلّقة بالموروث والأعراف والتقاليد والدين والتوازنات السياسيّة، ويتمّ الإفراج عن مجلّة الحريّات الفرديّة والمساواة، تلك المجلّة التي وُضعت بذرتها الأولى بخطاب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في 13 أوت 2017، والتي لم تكن في الوقت نفسه وليدة ذلك التاريخ، كما أنّها ليست مسقطة على الشعب التونسي منذ 2011، عكس ما قال الرئيس سعيّد، بل هي ثمرة مسار تاريخيّ طويل انطلق في عشرينات القرن العشرين على الأقلّ، ولم يكن ضربا من ضروب “المؤامرة الخارجيّة”، وهو بعيد كلّ البعد عن “الترف البورجوازي” الّذي أشار إليه الرئيس إذ أنّ المسألة حقّ من الحقوق الأساسيّة للمواطنين داخل بيوتهم وخارجها.
حدّثنا السيّد الرئيس عن شهادة شفاهيّة لمصطفى الفيلالي ومضمونها أنّ الوزير الأكبر سنة 1956، الحبيب بورقيبة، لم يمرّر مجلّة الأحوال الشخصيّة للنقاش في المجلس القومي التأسيسي لتجنّب النقاشات والخوف من ألاّ تمرّ المجلّة. خيّر بورقيبة أن يكون تمرير المجلّة في شكل أمر، وهذا ممكن، فقفز إلى الأذهان سؤال الجاهل بالقوانين مع استبشار خفيّ : أترى هذا ممكنا اليوم مع مجلّة الحرّيّات الفرديّة والمساواة ؟ لعلّ السيّد الرئيس يفكّر في تكرار الأمر خاصّة وأنّه ينظر إلى يمينه حين قال ذلك متوجّها إلى رئيس مجلس نوّاب الشعب الذي كان ينظر بنوع من الارتياب وكثير من التركيز والانتظار.
حدّثنا السيّد الرئيس عن الطاهر الحدّاد ومحمّد السنوسي وعثمان بالخوجة في تونس، وعن قاسم أمين، وعن عمر المصري، وهو مغربيّ الأصل، فلكأنّي أرى انفراج أسارير الفرحة على وجوه نساء كثيرات كنّ حاضرات في القصر الرئاسي احتفالا بعيدهنّ وقد خلنه سيكون تاريخيّا، وفي عيونهنّ نخوة واعتزاز وترقّب لجملة قد تأتي بعد لحظات معدودات لترتفع بعدها زغاريد المساواة فتبكت صخب قرون من الحيف والتمييز.
واصل السيّد الرئيس حديثه وازدادت الأسارير انفراجا، من جهة، وارتيابا، من جهة أخرى. وملأت الألوان أفق الانتظار لدى الكثيرين والكثيرات، فالدولة كما قال الرئيس، وهذا صحيح تمامًا، لا يمكن أن يكون لها دين، إذ هي فكرة معنويّة وقانونيّة. وأبعد من ذلك أخبرنا السيّد الرئيس أنّ فكرة الربط بين الدين والدولة هي “استشراقيّة” المصدر تعود إلى الخلافة العثمانيّة، ممّا يقطع الطريق مبدئيّا أمام كلّ دعاة التأصيل ودعاة تطبيق الشريعة على أساس أنّ “الإسلام دين ودولة”. وبالاستتباع شبه المباشر لمثل هذا القول، فإنّنا مواطنون ومواطنات نعيش في دولة لا يمكن أن تستند قوانينها وتشريعاتها إلاّ للدستور والقوانين الوضعيّة التي تقرّ بالمساواة المطلقة دون تمييز. طالت لحظات الانتظار وتأهبّت الكثير من الأكفّ لتصفيق طويل يرجع صداه إلى آذان كلّ امرأة مظلومة تخلّت عن قرطيها لتدرّس أبناءها وتُعيلهم.
****
ولكن أحيانا يكون الجوّ صافيًا والطقس جميلا فتفاجئنا الطبيعة بأحكامها التي قد نعرف سرّها، وقد لا نعرفه، فترعد وتبرق وتفسد الرحلة ونهرع إلى ملجإ ما يقينا من زوابع تخيّب انتظارات قضاء “نزهة رائقة” (ليست كنزهة عليّ الدوعاجي). أو أنّنا غالبا ما تقطع أحلامنا اللذيذة أصوات تفزعنا، فلا الأحلام تكتمل حين نصحو، ولا نستطيع العودة إلى النوم لاستكمالها.
حين “قرعت الدساتير أبواب البيوت لم يؤذن لها بالدخول” كذا قال السيّد الرئيس مضيفا أنّ “للبيوت حرمات تخشاها نصوص الدساتير” مؤكّدا أنّ داخل البيوت “محرّمات تهابها شرائع الأرض عند التقائها بشرائع السماء”. كانت تلك عبارات الرئيس التي يقدّم بها ما سيأتي، وهو تقديم زاد الريبة في ما سيأتي ليحلّ السؤال : لنفترض وجود هذا الصراع بين “شرائع الأرض” و”شرائع السماء”، لمن سينتصر الرئيس؟ هل سيكون رئيس دولة لا دين لها فيسهر على تطبيق دستور أقسم على المحافظة عليه أم رئيس “بيوت لها حرمات تخشاها نصوص الدساتير” ؟ هل سيكون متّبعا لشرائع الأرض في دولة مدنيّة كما يعلن دستورها أم متّبعًا شرائع السماء كما قال ؟
وفجأة يجد السيّد الرئيس، الضامن للدستور، نفسه أمام الفصل الحادي والعشرين: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز” فما المخرج ؟ لم يجد الرئيس بدّا في هذا الموضع سوى التعويل على نبرة سخريّة تأتي في تعالٍ مع نظرة إلى رئيس مجلس النواب ومن ورائه كلّ النواب، وخاصّة نواب المجلس الوطني التأسيسي، وكأنّه يقرّع طالبا في القانون الدستوري على مقاعد الدرس لارتكابه حماقة نقاش تافه حول تقديم المواطنين على المواطنات في الصياغة أو العكس.
غير أنّ الأبعد من هذا هو نظرة الرئيس إلى المساواة تلك القيمة الكبرى التي جهد لمحاصرتها فربطها بما سبق أن قاله حول “البيوت وحرماتها التي تأباها الدساتير وتخشاها”. فالزوجة أو الأخ أو الزوج أو الأخت في البيت، بالنسبة إليه، يصبحون أشخاصا لا مواطنين. وتبعا لذلك لا معنى للمطالبة بالمساواة بينهم لأنّ الإرث قضية بين الأخت وأخيها. والفصل الدستوري، حسب الرئيس، يتحدّث عن المواطنين والمواطنات وهذا مختلف عن الإخوة والأخوات. ألم يقل لنا السيّد الرئيس إنّ أحدنا حين يدخل إلى بيته لا يقول “السلام عليكم أيّها المواطنون أيّتها المواطنات” ؟ كان هذا هو أحد وجوه منطق الرئيس، والحقّ أنّه منطق حاول جاهدا أن يجد له تماسكًا وانسجامًا إذ دعّمه بربط المسألة بالأحوال الشخصيّة التي بيّن بعض معانيها، ولم يكن ذلك من باب الحشو أو الاستطراد، وإنّما ليذهب خطوة أخطر بكثير.
هذه الخطوة تتمثّل في إخراج قضيّة الإرث من مجال الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة ليحصرها في زاوية الأحوال الشخصيّة. وبناء على ذلك تخرج مسألة المساواة في الإرث من حيّز العدالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتصبح كأنّها قضيّة خاصّة “بالبيوت ذات الحرمات التي تخشاها الدساتير” ؛ فنحن في بيوتنا لسنا مواطنين إذ نترك مواطنتنا على عتبة الباب قبل الدخول. وهنا يمكننا التساؤل إذا مُورس عنف ما داخل “حرم البيوت” هل يحقّ للدستور والقوانين المجرّمة للعنف أن تخترق الحرم وتتدخّل بين أفراد الأسرة بصفتهم مواطنين تطبّق عليهم القوانين والدساتير أم أنّ ذلك غير ممكن بحكم أنّ أفراد الأسرة داخل بيتهم ليسوا مواطنين؟ ومن اللافت للنظر أيضا أنّ السيّد الرئيس في عيد المرأة التونسيّة أدّى زيارة تكريم للنساء الفلاّحات بأحد أرياف بوسالم من ولاية جندوبة ولا ندري إن كان يعرف أنّ نسبة امتلاك النساء الكادحات من الأراضي الّتي دفنّ فيها شبابهنّ وسقينها بدمائهنّ لتخضرّ وتنبت، لا تتجاوز ستّة بالمائة، وهذه النسبة الضئيلة كان أحد أسبابها الرئيسيّة قضيّة الإرث، فهل يعتبر ذلك من الأحوال الشخصيّة أو من الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة ؟ إنّ الحفاظ على مثل هذا الوضع ليس تكريسا للظلم فحسب وإنّما تكريس واضح للتوجّه الليبرالي على الرغم من الواجهة الاجتماعيّة في الخطاب.
في هذا السياق يلتقي خطاب الرئيس مع خطاب جماعة “موش وقته”، تلك الحجّة التي رُفعت من أطراف سياسيّة مختلفة، تبدو متصارعة ولكنّها تلتقي حين يتعلّق الأمر بالمساواة في الإرث للتأكيد على أنّ المطالبة بالمساواة ليست من أولويّات الشعب التونسي مع الزعم بأنّ الأولويّة للمسألة الاقتصاديّة والاجتماعيّة حتّى لكأنّ المساواة ليست قضيّة اقتصاديّة واجتماعيّة، ولكأنّها ترف فكريّ أو نخبويّ، بل إنّه حتّى بعض الأطياف السياسيّة المحسوبة على التقدّميّة والحداثة تتجنّب المسألة لغايات سياسويّة براغماتيّة أثبتت التجربة والواقع أنّها استراتيجيّة لم تؤدّ إلاّ إلى الفشل ولكنّ الاستمرار فيها متواصل. ولدعم هذه الفكرة والسير فيها يعمد السيّد الرئيس إلى عنصر شبه قارّ في خطاباته وهو الإشارة إلى أنّ المساواة في الإرث ليست من مطالب الشعب التونسي ملمّحا إلى أنّها مفروضة من الخارج.
ويواصل السيّد الرئيس محاصرة المساواة فينعتها بـ “المساواة الشكليّة” ويضعها مقابل براديغم قديم هو “العدل والإنصاف”. والحقّ أنّ ما ارتسم على وجه الرئيس من علامات يدلّ على أنّه يستعمل عبارة “المساواة الشكليّة” لتحقير “المساواة القانونيّة” الّتي لا تصبح عند الرئيس غاية أو هدفا ليستعيض بها بمفهومي العدل والإنصاف. ولا أريد هنا الإطناب في بيان أنّ مسألة “العدل والإنصاف” كانت دائما حجّة الرافضين للمساواة في الإرث وغيره بين المرأة والرجل. ولكن ألم يتساءل السيّد الرئيس أنّ العدل مثلا، لا المساواة، يخوّل كذلك عدم المساواة في الأجر بين موظّف وآخر يشغلان الوظيفة نفسها إذا كان أحدهما أكفأ من الثاني؟ ألا يمكن أن يقتضي العدل مثلا أن نتغاضى عن شخص خرق قانون الطرقات لأنّه مستعجل لأمر ما ونعاقب شخصا آخر قام بالمخالفة نفسها لأنّه لم يكن على عجلة ؟ ألا يقتضي العدل أيضا أن نسمح بالسرقة إذا كان السارق محتاجًا ونعاقب سارقا آخر يسرق على وجه الفضل ؟ ما هو في النهاية مقياس العدل لتنظيم الحياة بين المواطنين والمواطنات في دولة مدنيّة “لا دين لها” على حدّ قول الرئيس؟ أليس في النهاية القانون، وليكن شكليّا، ولكنّه يسري على الجميع دون استثناء أو تمييز؟ ولو عدنا إلى جوهر المسألة ألا يعرف الرئيس أنّ قضيّة المساواة في الإرث ترتبط حصرا بالتساوي بين الجنسين اللذّين لهما نفس درجة القرابة من المتوفّي والأمر لا يتعلّق بدرجات مختلفة؟
ولكن لماذا يقدّم لنا الرئيس هذا التقابل بين المصطلحات ؟ أتى الخطاب بالإجابة : لقد كان ذلك لإعطاء الضربة القاضية، في نظره، إلى المساواة في الإرث : القرآن في نظر السيّد الرئيس واضح وصريح في قضيّة المواريث ولا يقبل التأويل.
هنا تنكشف كلّ المقابلات اللفظيّة السابقة بين “شرائع الأرض” و”شرائع السماء”، وبين “المساواة الشكليّة” و”العدل والإنصاف”، بين “المواطنين في الدولة التي لا دين لها” و”البيوت ذات الحرمات التي تخشاها الدساتير”. كلّ ما قيل لم يكن سوى من أجل تلك الجملة: “القرآن في مسألة المواريث واضح وصريح ولا يقبل التأويل”، وإن كنّا استعملنا عبارة “أفق الانتظار” سابقا من داخل نظريّة التلقّي، فإنّه واستنادا إلى النظريّة نفسها يمكن القول إن الجملة المشار إليها تمثّل “بؤرة المعنى”، فيتمّ اللقاء في نقطة مركزيّة مع كلّ المحافظين دينيّا في واحدة من أعتى المقولات الأصوليّة : لا اجتهاد مع النصّ. وهنا يمكننا أن نغمز غمزة سريعة جدّا لأصدقائنا “الحداثيّين” الذين يقاومون الإسلام السياسي بمواقف الرئيس وخياراته، إذ لا نعتقد أنّ هذا الخيار صائب أو سيؤدّي إلى نتيجة إيجابيّة فهو كالاحتماء بالرمضاء من النار.
إنّنا إزاء خطاب يجسّد فعليّا وبصورة ملموسة مفهوم “الثورة المحافظة”. إذ لو رمنا الذهاب نحو نوع من البحث عن الخصائص الجامعة للخطاب، لوجدناها متطابقة مع خصائص الثورة المحافظة ومن أهمّها اعتبار حقوق الفرد تابعة للجماعة ولا يمكننا تصوّرها خارجها ممّا يؤدّي إلى حديث عن مفهوم “الأمّة” بتصوّر ماهويّ مغلق، وهذا المفهوم متكرّر في خطاب الرئيس. وممّا يؤدّي إليه ذلك كثرة الحديث عن التآمر والمؤامرات وإن كان ذلك دون تحديدات دقيقة أو ضبط للمتآمرين المتحدّث عنهم.
وممّا يكشف عنه هذا الخطاب وغيره هو حضور دائم لعصر مرجعيّ في ذهن الرئيس يعتبره عصرا ذهبيّا وهذا مشترك بين كلّ تعبيرات الثورة المحافظة، ولعلّ ذلك ما يفسّر العودة الدائمة عنده إلى عمر بن الخطّاب، وذلك ليس في إطار العودة إلى رمز دينيّ بل إلى رمز حضاريّ مخصوص له مكانة مخصوصة لدى الجماعة، ويحيل على قيمة العدل المطلق، ويشير إلى نظام اجتماعيّ مخصوص يتماهى مع ما يعتقد أنّه النظام الطبيعي للأشياء. والنظام الطبيعي يقوم على التراتبيّة والهرميّة والمساواة فيه حالة غير طبيعيّة ومنافية لطبيعة الأمور فيتمّ رفضها، باسم الطبيعة أو باسم الله أو التقاليد. وربّما علينا القول هنا إنّ ما قاله الرئيس حول وضوح القرآن في مسألة المواريث صحيح في جانب منه هو استحالة تأسيس المساواة الحديثة بناء على النصوص القديمة مهما كانت تلك النصوص بما فيها القرآن، ومهما تمّ الاجتهاد في تأويلها، فإنّها تبقى نصوصا تاريخيّة علينا الكفّ نهائيّا عن تأصيل القيم الحديثة فيها.
****
إنّ ما هو واضح وصريح فعلا ليس الآية أو القرآن بل خطاب السيّد الرئيس في ذكرى انبعاث مجلّة الأحوال الشخصيّة، وهو وضوح يكشف بدقّة عن جانب مهمّ من مشهد الصراع الحالي بتونس إذ هو صراع بين المحافظين، دون غيرهم، نتج عن عدّة عوامل أفرزت الوضع الذي نعيشه منذ الانتخابات الأخيرة بالخصوص، تلك الانتخابات التي كانت من بين محدّداتها ما كنّا أسميناه في مقال سابق، وقبل إجراء الانتخابات، “تبلبل الإيديولوجيّات”. وهو ما ينتج عنه بصورة شبه آليّة صعود الشعبويّات، ولم يكن ذلك ممكنا لولا ضعف القوى التقدّميّة ومعاركها الجانبيّة وتشتّتها وحساباتها السياسويّة الضيّقة.
المقال صدر في جريدة المغرب لليوم