اردوغان يضع العلاقات الألمانية الفرنسية على المحك
رغم سحب أنقرة لسفينة التنقيب من المنطقة المتنازع عليها مع أثينا، بات الاتحاد الأوروبي على وشك فرض عقوبات على تركيا، ما يضع ألمانيا في موقف لا تحسد عليه، ستجبر فيه على الاختيار بين الحليف الفرنسي والشريك التركي.
سلاح اللاجئين ـ أداة أردوغان المفضلة لترويع الأوروبيين
خلقت موجة اللاجئين التي تدفقت على أوروبا عام 2015 في سياق الحرب الأهلية السورية صدمة عميقة في المجتمعات الأوروبية، يُعزى لها تنامي التيار اليميني الشعبوي المعادي للأجانب وإحداث شروخا سياسية غير مسبوقة. الأزمة كشفت أيضاً عيوب أوروبا وانقساماتها البنيوية. وقد استقبلت ألمانيا لوحدها معظم هؤلاء اللاجئين رغم أن اليونان كما إيطاليا تحملتا عبئاً كبيراً في هذا الشأن.
وفي عام 2019، سجّل الاتحاد الأوروبي 612 ألف طلب لجوء أول، بحسب المكتب الأوروبي للإحصاءات “يوروستات”، أي نصف العدد المقدم في فترة الذروة التاريخية بين عامي 2015 و2016، أي حوالي 1.2 مليون طلب سنوياً. معظم هؤلاء للاجئين قدموا من تركيا عبر اليونان.
ولمواجهة الوضع اضطر الاتحاد الأوروبي لإبرام اتفاق مع أنقرة، الذي ينصّ على إرسال إلى تركيا المهاجرين الذين يصلون إلى اليونان مقابل مساعدة مالية. هذا الاتفاق ساهم في تراجع تدفق اللاجئين، لكنه أعطى في لوقت ذاته الرئيس رجب طيب إردوغان سلاحاً يلوح به في استمرار في وجه الأوروبيين.
ففي شباط/ فبراير 2020، أمر الرئيس التركي بفتح حدود بلاده مع أوروبا أمام المهاجرين ما أعاد شبح أزمة 2015 إلى لواجهة، قبل أن يستدرك الأمر. كل هذا يضع ألمانيا والتكتل الأوروبي عموماً تحت رحمة أردوغان الذي تحتضن بلاده أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
شرق المتوسط ـ امتحان صعب للعلاقات الألمانية الفرنسية
وضعت التوترات الحالية في شرق المتوسط العلاقات الألمانية الفرنسية على المحك، كاشفة عن أزمة عميقة لما يسمى تقليدياً بـ “محرك الاتحاد الأوروبي”. صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية القريبة من الدوائر المحافظة في باريس كتبت في 19 اوت 2020 أنه “في الوقت الذي دخلت فيه فرنسا في صراع مفتوح مع الرئيس أردوغان، وضعت ألمانيا على نفس المستوى اليونانيين الذين تعرضوا للهجوم وحلفائهم الفرنسيين من جهة، والأتراك من جهة أخرى، إذ دعت (برلين) كل الأطراف إلى “تجنب التصعيد”. وأكد جان لوب بوناني كاتب المقال أنه لو كانت هناك علاقة خاصة فعلاً تربط فرنسا بألمانيا “لقدمت لنا المستشارة (ميركل) دعمها الكامل ضد العدوان التركي والتوسع الإسلامي”.
وبهذا الصدد أكد كان دوندار في أسبوعية “دي تسايت” الألمانية (الصادرة في 28 اوت 2020) أن “هناك دوافع تاريخية وسياسية واقتصادية وعسكرية وراء قرب فرنسا من أثينا وألمانيا من أنقرة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أهمية سعي المستشارة ميركل للحوار بهدوئها الذي يضرب به المثل. غير أن انقاذ أردوغان من العقوبات الأوروبية لن يكون بالأمر السهل وهو الذي اتهم المستشارة قبل ثلاث سنوات باستخدام “أساليب نازية”.
وأوضح الكاتب أن انسحاب ميركل المتوقع من الحياة السياسية إضافة إلى احتمال سيناريو عدم إعادة انتخاب دونالد ترامب في الخريف المقبل، سيزيد من عزلة أردوغان في المستقبل المنظور.
غير أن الموقف الألماني قد يتحرك اتجاه تشديد اللهجة اتجاه أنقرة. صحيفة “بيلد تسايتونغ” (الصادرة في 15 سبتمبر 2020) نقلت موقف ماركوس فيربير، القيادي في الحزب الديموقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل الذي حذر من “خطر الحرب المتزايد على أبواب أوروبا”. وأوضح أنه يجب وقف دوامة التصعيد في شرق المتوسط. إن تركيا تتصرف على نحو متزايد كمعتد وتتجاهل القانون الدولي في النزاع “.
وقال فيربير إنه نتيجة لذلك، فإن “العقوبات الاقتصادية وتعليق الاتفاقية الجمركية مع تركيا والانهيار النهائي لمفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يجب أن تكون مطروحة على الطاولة في النهاية”. صحيفة “تاغس أنتسايغر” السويسرية (الصادرة في الأول من سبتمبر 2020) وضعت الطرفين التركي واليوناني في الميزان ورأت أن “الصراع حول احتياطيات الغاز الطبيعي في البحر المتوسط لا تؤججه تركيا وحدها، فاليونان تمارس أيضاً سياسة متطرفة في تحديد حدودها البحرية لا يغطيها القانون الدولي. فأثينا تُحرك أيضاً سفنها الحربية وتنظم مناورات لأسطولها البحري”.
كانت الواقعة التي تواجهت فيها سفن بحرية فرنسية وتركية في شرق المتوسط في جوان الماضي، القشة التي قصمت ظهر البعير من وجهة نظر فرنسية. حادث اعتبرته أنقرة مجرد سوء تفاهم. ويتعلق الأمر بمحاولة فرقاطة فرنسية تحت قيادة حلف شمال الأطلسي تفتيش سفينة شحن ترفع علم تنزانيا للاشتباه في تهريبها السلاح لليبيا في انتهاك لحظر سلاح تفرضه الأمم المتحدة.
وقالت باريس حينها إن ثلاث سفن تابعة للبحرية التركية ترافق سفينة الشحن تحرشت بالفرقاطة. وأضافت أن سفينة تركية أضاءت أنوار رادارها وارتدى طاقمها سترات واقية من الرصاص ووقفوا يشهرون أسلحتهم الخفيفة. ورفضت أنقرة الرواية الفرنسية ونفت تهريب السلاح إلى ليبيا وتقول إن سفينة الشحن جيركين كانت تنقل مساعدات إنسانية. واتهمت البحرية الفرنسية بممارسة سلوك عدواني.
ويبدو أيضاً أن باريس، التي تدعم المارشال حفتر، لم تستسغ دور أنقرة في ليبيا، حيث أدى الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً إلى قلب موازين الصراع هناك لصالح حكومة طرابلس. وترى باريس أن أنقرة أقدمت على عدد من الخطوات الغريبة تراوحت بين شراء أسلحة من روسيا والتنقيب على الغاز قبالة قبرص، وتهريب السلاح لليبيا تٌبعد يوما بعد يوم تركيا من المنظومة الغربية.
غير أن أروغان يلعب بدهاء بين تضارب المصالح سواء على مستوى الناتو أو على المستوى الأوروبي. فهو يضع رجلاً في الغرب والأخرى لدى روسيا. وتملك تركيا ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي وتعطي الحلف وزناً استراتيجياً خاصة في البحرين الأسود والمتوسط. وبهذا الصدد كتبت صحيفة “تاغستشبيغل” (الصادرة في التاسع من سبتمبر 2020) “في حال ما إذا أرسلت تركيا بالفعل سفن استكشاف (محروقات) إلى ليبيا، فمن المرجح أن يتفاقم خلافها مع الأوروبيين خصوصاً في ليبيا حيث تنشط شركتا الطاقة توتال الفرنسية وإيني الإيطالية”.
مفترق الطرق ـ تركيا داخل أم خارج حلف الناتو
اتسمت علاقات واشنطن بحلف شمال الأطلسي “ناتو” بالغموض والتوتر خصوصاً في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لدرجة ان بعض التخمينات تخوض في احتمال إعلان ترامب في حالة إعادة انتخابه، انسحاب بلاده من الحلف. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية تصريحاً لدانيال ديفيس من مركز ديفينس برايوريتيز الأمريكي، أن تحالف الولايات المتحدة مع الناتو في حاجة إلى تغيير، وأن الخطوة الأولى في هذه العملية تتمثل في ضرورة أن تتحول الولايات المتحدة من كونها خط الدفاع الأساسي لدول الحلف إلى القيام بدور داعم فحسب.
وفي تقرير نشرته مجلة “ذا ناشيونال انتريست” الأمريكية، قال ديفيس، وهو ضابط سابق بالجيش الأمريكي تقاعد في عام 2015 بعد خدمة دامت 21 عاماً، إنه بعد 30 عاماً من انتهاء الحرب الباردة، يواجه الناتو تهديداً من المحتمل أن ينال من طبيعة وجوده، ولا يتمثل هذا التهديد في غزو روسي محتمل لأوروبا الغربية، ولكن في إمكانية وقوع حرب بين دولتين من أعضاء الحلف، هما اليونان وتركيا. ومنذ انضمام الدولتين للناتو، كانتا مرتين على شفا الحرب.
ومع احتمال نشوب حرب بين تركيا واليونان، زادت الحاجة إلى مزيد من الإصلاح والتغيير. وأكد ديفيس أنه يتعين أن يبدأ التغيير بأن تقوم الولايات المتحدة بدور داعم للحلف وأن تكف عن تحمل العبء الرئيسي للدفاع عن دوله، فالدول الأوروبية لم تعد فقيرة كما كان الحال في خمسينيات القرن الماضي. وألمانيا، على سبيل المثال يقول ديفيس، هي صاحبة أكبر رابع اقتصاد في العالم الآن، وهي أكثر من قادرة ماليا على دفع غالبية تكاليف الحفاظ على أمنها.
وإذا لم تتخذ أمريكا الإجراء المنطقي للقيام بذلك الآن حسب الخبير، فإن النتيجة قد تكون التدمير الذاتي للحلف عندما تبدأ الدول الأعضاء فيه إطلاق النار على بعضها البعض، مما يرغم الدول الأخرى في الحلف على الانحياز لطرف من الطرفين المتحاربين. وسيكون ذلك أسوأ وقت لبحث الأمر بالنسبة للمصالح الأمريكية. والآن هو الوقت المناسب للتصرف، حيث ما زال هناك وقت لتجنب الكارثة، حسبما ما جاء في تحليل لبلال تامر لحساب وكالة الأنباء الألمانية.
وأكدت الصحيفة أن اليونان كانت دائماً على خط المواجهة للدفاع عن الغرب منذ آلاف السنين، وهو “ما تستغله أثينا على الدوام للمطالبة بمزيد من الدعم المالي لدى الأمريكيين أو الألمان. دافعو الضرائب لا يريدون معرفة قيمة لأموال التي حولت لليونان بالضبط. فنحن دوماً إلى جانب الإغريق، المسيحيين الأقدم في أوروبا، ,الساحرين الأكثر فساداً. أو هل منا من يحب أردوغان؟”.
العلاقات الأوروبية التركية ـ حين لا تنفع العصا والجزرة
ذهب وزير خارجية الاتحاد الاوروبي جوزيب بوريل إلى القول إن الاتحاد قد يكون مقبلاً على اتخاذ “قرارات صعبة”. وأكد بوريل خلال جلسة نقاش في البرلمان الأوروبي (الثلاثاء 15 سبتمبر 2020) أن “علاقاتنا مع تركيا وصلت لمنعطف وحان الوقت ليتخذ مسؤولونا قرارات صعبة” خلال قمتهم المقررة في 24 و25 سبتمبر. وتدارك بالقول: “ولكن ليس هناك اتفاق بعد في شأن عقوبات”.
ويملك الأوروبيون عدداً من الخيارات تشمل عقوبات اقتصادية بحق تركيا، وافق عليها وزراء الخارجية الأوروبيون خلال اجتماعهم نهاية اوت في برلين. وأضاف بوريل: “حان الوقت لتحويل الاتفاق السياسي إلى قرار رسمي”. وأيدت المجموعات السياسية الكبرى في البرلمان الأوروبي الثلاثاء فرض عقوبات على تركيا، وطالب العديد من المتحدثين بحظر بيع الأسلحة لتركيا.
غير أن بوريل دعا في الوقت ذاته الى مواصلة الحوار مع أنقرة، لكنه اقر بأن “الوضع تفاقم” رغم أن انقرة أعادت إلى سواحلها سفينة المسح والتنقيب التي كانت تنشط في شرق المتوسط. الدكتور رونالد ميناردوس مدير مكتب مؤسسة فريدريش ناومان الألمانية في إسطنبول أوضح أن “الدبلوماسية المكوكية لبرلين لم تفلح بشأن حلف غربي محطم شرقي المتوسط. وزير الخارجية الألماني (هايكو ماس) اكتفى في الوقت الراهن بالحد الأدنى: اليونانيون والأتراك يريدون مواصلة قبول لوساطة الألمانية”.
وبهذا الصدد، كتبت صحيفة “تاغشبيغل” (الصادرة في 15 سبتمبر/ 2020، “ما يجمع الصين مع تركيا هو أنها دول يقودها حكام مستبدون. الاتحاد الأوروبي يواجه أعمال عدائية في شرق البحر الأبيض المتوسط، في تهديد واضح لاثنين من أعضائه، قبرص واليونان. ولحد الآن لم يرد الاتحاد بفرض عقوبات (..) الأسبوع المقبل يريد رؤساء الدول والحكومات مناقشة موضوع والعقوبات التي حان وقتها فعلاً”.
حسن زنيند
المصدرdw