كما لو أنه توقع إعتزاله: مهرجان القاهرة السينمائي كرّم داود عبد السيد
لم يعترف يوما بزعامة عادل إمام
“لا أستطيع التعامل مع الجمهور الموجود حاليا، ونوعية الأفلام التي يفضلها بغرض التسلية”، بهذه الجملة أعلن المخرج داود عبد السيد اعتزاله الإخراج، وذلك في لقائه مؤخرا على شاشة “سي بي سي” (CBC)”.
المخرج الملقب بفيلسوف السينما الذي يعاني من عزوف المنتجين عن أعماله، أضاف في لقائه أن التمويل يذهب لأفلام التسلية، والجمهور أصبح يبحث عن التسلية لا مناقشة القضايا، ولا البحث عن شيء حقيقي في النفس البشرية.
وانتقد المخرج المصري التأثر الشديد بالسينما الأميركية في المشاهد دون أن يكون لها قيمة حقيقية، مثل مشاهد تحطيم البطل للسيارات أو حمل السلاح وضرب الرصاص، فهي مشاهد منقولة، غير أن السينما الأميركية تقدمها بشكل احترافي وحبكة فنية أقوى.
وتابع داود عبد السيد أنه في السابق كان الجمهور فيه طبقة وسطى بشرائح مختلفة، وكان لدى الجمهور هموم واهتمامات، فكانت السينما تخاطب هذه الفئة. وعلى الرغم من أنه كان يستهدف الجمهور بالكامل في أعماله، لكن التجاوب كان يأتي من الفئة الأكثر ثقافة وتعلما ومن الشباب. فعلى سبيل المثال، في فيلمه “مواطن ومخبر وحرامي”، تفاعل الجمهور مع العمل لوجود شعبان عبد الرحيم، الذي كان وجوده في الفيلم لأن الدور مناسب له، وليس لأنه ممثل مبدع.
سينمائي بالصدفة
يأتي هذا القرار مع تصريحات المخرج المصري السابقة بأن لديه الكثير من السيناريوهات، لكنه لا يجد الإنتاج الذي يتحمس لتقديم أعماله، وبذلك ينهي داود عبد السيد -المولود في 23 نوفمبر 1946- مسيرة فنية بدأها في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وبالتحديد عام 1968، حين عمل مساعد مخرج في فيلم “الرجل الذي فقد ظله”، ليغير مسار حياته بعد ذلك.
لم يكن عبد السيد يحلم بالفن أو السينما، بل كان يرغب في أن يعمل صحفيا، إلا أنه أحب السينما بالصدفة حين ذهب مع ابن خالته إلى أستوديو جلال، إلى جانب مشاهدته فيلم “أورفيوس الأسود” للمخرج مارسيل كامو، الذي تأثر به كثيرا وقتها، فقرر أن يلتحق بمعهد السينما، وبالفعل كان ضمن الدفعة الخامسة للمعهد مع المخرجين علي بدرخان وخيري بشارة، وتخرج داود من المعهد عام 1967، عام النكسة.
لم تستهوِ داود عبد السيد فكرة العمل مساعد مخرج، رغم عمله مع كبار المخرجين وقتها مثل يوسف شاهين في فيلم “الأرض”، لكنه لم يشعر أن الأمر إبداعي بقدر ما هو عمل إداري، وقرر أن يخوض تجربته الخاصة.
التكوين الفكري
الفترة الزمنية التي عاشها داود عبد السيد وشهدت العديد من الأحداث السياسية، ثم معايشته لهزيمة 1967 وغيرها من الأحداث، جعلته مشغولا بالقضايا السياسية والفكرية والإنسانية أيضا، وهو ما كان واضحا في أعماله التي تحمل خبرات إنسانية وجمالية أيضا، وقد بدأها بفيلمه التسجيلي “وصية رجل حكيم عن شؤون القرية والتعليم”، وأهدى الفيلم وقتها لعميد الأدب العربي طه حسين الذي دعا لمجانية التعليم، ثم فيلم “العمل في الحقل” و”عن الناس والأنبياء والفنانين”.
المخرج المؤلف
انتقال داود عبد السيد للإخراج وعشقه للسينما لم يجعله يجري وراء تقديم أعمال كثيرة، فمنذ بدأ فيلمه الروائي الأول “الصعاليك” عام 1985، وحتى فيلمه الأخير “قدرات غير عادية” 2015، لم يقدم سوى 9 أفلام فقط، كان يعمل عليها بتأنٍ، فكان يكتب السيناريو بنفسه إلى جانب الإخراج، ما عدا “أرض الأحلام” الذي كتبه هاني فوزي.
ويقول داود في تصريحات له عن كتابة أفلامه “حين أكتب السيناريو، أكون قد حددت نظريا أشياء كثيرة في أسلوب الإخراج، وتأتي مرحلة الإخراج تنفيذا لتصوري للفيلم”، فقد كان متأثرا بالموجة الفرنسية التي ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، وكانت تضم عددا من المخرجين المؤلفين.
الواقعية السحرية
اعتمد داود عبد السيد أسلوب الواقعية السحرية في أفلامه التسعة التي قدمها على مدى 25 عاما، منذ قدم أول أفلامه “الصعاليك”. وفي أفلامه التالية “سارق الفرح” و”الكيت كات”، اهتم المخرج المصري بتقديم نماذج مهمشة على جانب الحياة تحاول أن تحقق بعضا من الأحلام، بجانب بعض الإسقاطات السياسية غير المباشرة التي تضمنتها أعماله.
ويرصد عبد السيد جيدا العلاقات الإنسانية وهموم وتطلعات أبطاله في “أرض الخوف” و”رسائل البحر” وآخر أفلامه “قدرات غير عادية” (عام 2015)، فكأنما أراد أن يروض الحياة القاسية التي يعانيها المهمشون اجتماعيا من خلال أعماله التي عبرت عن هذه الطبقة بصورة شديدة الواقعية، مغلفة جماليات الصورة والكتابة.
وإلى جانب اهتمامه بالمضمون الفكري والبعد الإنساني، تميزت أفلامه أيضا بالحس الجمالي كمخرج صاحب بصمة ومدرسة متفردة، ساهم في إبراز تلك الجماليات أيضا موسيقى راجح داود، وديكورات أنسي أبو سيف.
جوائز وتكريمات
استطاع داود عبد السيد خلال مشواره أن يحصد العديد من الجوائز والتكريمات، منذ أول أفلامه “الصعاليك” الذي حصل على جائزة العمل الأول من مهرجان أسوان الأكاديمي. وحصل فيلمه الثاني “البحث عن سيد مرزوق” على أكثر من جائزة، منها جائزة الهرم الفضي من مهرجان القاهرة السينمائي، وجائزة مهرجان “خريبقة” للسينما الأفريقية بالمغرب.
أما فيلم “الكيت كات”، فحصل على الجائزة الذهبية من مهرجان دمشق، وجائزة السيناريو من مهرجان معهد العالم العربي بباريس، وجائزة بمهرجان الإسكندرية السينمائي، وجائزة المهرجان القومي للسينما، وجائزة أوسكار السينما المصرية كأفضل سيناريو وإخراج.
وحصل فيلم “سارق الفرح” على الجائزة البرونزية من مهرجان دمشق السينمائي، وجائزة الجمهور من مهرجان سورنتو بإيطاليا، وحصل “أرض الأحلام” على جائزة الهرم الفضي من مهرجان القاهرة، كما صنف فيلمه “رسائل البحر” ضمن أفضل 100 فيلم عربي من مهرجان دبي السينمائي في عام 2013، وفي عام 2018 تم تكريم داود عبد السيد من مهرجان الجونة السينمائي.
المخرج المعتزل عمل مساعداً للكبار: يوسف شاهين، كمال الشيخ، وممدوح شكري، وأخرج أفلاماً قصيرة قبل أن يخرج 9 أفلام طويلة بعضها من العلامات السينمائية المضيئة مثل: الكيت كات، البحث عن سيد مرزوق، الصعاليك، وهو من أدار سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في فيلم” أرض الأحلام).
كأن مهرجان القاهرة توقع إعتزاله...
داود رفض إعتبار خطوته بالإحتجاجية رغم أن له إعتراضات على العديد من الأمور على الساحة السينمائية، مثل الرقابة، وعملية الإحتكار في مجال الإنتاج، ولم يعد يتمتع بالقدرة على العمل، بينما كانت له أكثر من ملاحظة على بعض الأسماء منها الفنان عادل إمام حيث تساءل عن أي زعامة نتكلم إنه ليس الأفضل.