الرئيس والعجوز التي تطبخ الحصى
تذكرني زيارات السيد الرئيس إلى (مناطق الظل) بحكاية عمر بن الخطاب مع العجوز التي شاهدها تطبخ الحصى لأطفالها الجوعى حتى يناموا بلا أكل،رغم اختلاف الخاتمة! فالفاروق كما تنقل كتب التراث لم يهدأ له بال ليلتها قبل أن يطعم الأطفال الجياع أكلا حقيقيا (جلبه من بيت مال المسلمين)، لكن زيارات الرئيس اليوم تنتهي كما بدأت وذلك لثلاثة أسباب على الأقل:
أولا: في غياب المشاريع الحقيقية للتنمية والمنجزات التي يمكن تدشينها برأس مرفوع وأياد ثابتة، لا تحمل رئاسة الجمهورية إلى هذه المناطق في كل زيارة إلا المزيد من الوعود والشعارات وعبارات التفهم والمواساة، فتبدو هذه الزيارات غير المعلنة وكأنها مخصصة لإقناع الفقراء بأنهم فقراء، وطمأنتهم بأن الدولة تعرف أنهم فقراء، لكنها قبل إخراجهم من الفقر، منشغلة بمعاقبة أولئك الذين كانوا من وجهة نظرها سببا في فقرهم، وعليهم أن يصبروا (أن يسمعوا صوت الحصى في القدر) حتى تقضي الدولة على دابر الفساد، وتزج بآخر الفاسدين في المرناقية، ونصبح-بحول الله- مجتمعا فاضلا يعرف كيف يقف بانضباط في الطوابير الطويلة التي لا تنتهي أمام الإدارات والمخابز!
ثانيا: لأن الصور في هذه الزيارات تصاحبها سمفونية عجيبة هي خليط من شعارات التأييد والمطالب والتضرعات، يقابلها الزعيم (برحابة صدر وتفهم) فيؤكد، وينفي، ويشدّد، ويهدّد،ويعد ويتوعد، وهو ما تلخصه قبضة يده أمام الكاميرا في أكثر من مشهد، والضجيج بوصفه سيّد الموقف هنا لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يستنتج منه أن الشعب والدولة (كل يغني على ليلاه). فمطالب الجمهور مادية ملموسة لا يخجل معها البتة في أن يتضرع للرئيس من أجل الحليب والزيت والسكر، فضلا عن الشكاوى الفردية والخاصة التي لا يمكن حلها إلا (حالة بحالة) والتي تدل بوضوح على انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الحكم المحلية…، فيما يطمئن الرئيس مخاطبيه عن انتخابات المجالس المحلية التي ستعطيهم آليات صنع القرار والثروة!ولا يعرف أحد شيئا عن شكل هذه الثروة ومصدرها (خليقة وإلا صنيعة)!
ثالثا: يغيب عن ذهن الرئيس وأنصار (البناء القاعدي) عموما من المريدين الحقيقيين (وهم قلة قليلة)، والمفسرين والانتهازيين وضاربي البندير في وسائل الإعلام (وهم كثرة كثيرة) أن هذه الحشود التي تهب لاستقبال الرئيس أينما حل وتسمعه ما يحب أن يسمع من عبارات التأييد، والتي يسميها (الشعب) هي نفسها التي تهب لاستقبال أي رئيس.. فلم يسجل تاريخنا إلى الآن شيئا عن رئيس أو وزير أول خرج إلى الشارع ولم يهتف له أحد!!، يمكنك أن تعتبرنا شعبا مريضا بالهتاف…، ولا يتقن سوى التضرع إلى السلطة، وكل رئيس أو وزير يقرر أن يخرج إلى الشارع سيجد الآلاف في استقباله طوعا أو كرها، وسيرجع إلى مكتبه وهو ممتلئ بمشاعر الامتنان لهذا الشعب الذي يحبه… وينسى في غمرة هذا الفيضان العاطفي (التلقائي) أن هذا الحب حتى لو كان عفويا وصادقاهو جزء من الديكور السياسي: مواطنون يتظاهرونبتأييد السلطة، وسلطة تتظاهر بتأييد مطالب مواطنيها، والفقر باسط ذراعيه بينهما وابتسامة الهزء الماكرة على شفتيه الغليظتين..
ولو أردت الدقة فإن المشهد وإن كان معادا ومكررا فهو مختلف، ففي العهود السابقة كان حفلة استقبال الجموع للزعيم تنتهي بجلسة مضيقة في مقر الولاية لاستعراض قائمة من القرارات توهمنا السلطة بأنها نتيجة للزيارة بينما هي في الواقع قد اتخذت مسبقا ونظمت الزيارة لتكون إطارا مشهديا لإعلانها (صندوق 26-26 نموذجا). أما الآن فالشعب والسلطة يلعبان معا كرة الطاولة (البينغ بونغ): الشعب يطالب السلطة بالتنمية والسلطة تقول للشعب سأعطيك آليات لتحقيق التنمية واصنعها بمفردك. ويشترك الاثنان في سبّ (الآخر) الذي يقف خارج هذا المشهد، ولعنه بعبارات مكررة بلا معنى في مقدمتها العبارة الرئاسية الشهيرة (ينكلون بالشعب في قوته..)
زيارات الرئيس إلى الدواخل بكل ما فيها من ضجيج ودموع وعناق وهتافات لا تنتهي كما تنتهي زيارات عمر بن الخطاب (المشكوك أصلا في واقعيتها)، ففي الرواية المتداولةقال أمير المؤمنين: «إن حمل جبال الحديد وثقلها خير من حمل الظلامة كبرت أو صغرت»، ولم تأذن النيابة العمومية بفتح تحقيق قضائي ضد المرأة العجوز لأنها قالت: «لا حيّا الله عمر والله إنه ظلمني».
- عامر بوعزة، صحافي تونسي مقيم بالدوحة