الكرة أفيون الشعوب
سعداء بنشر هذا المقال التحليلي لظاهرة” التدين” التي طغت على لاعبي منتخب تونس لكرة القدم ، ونشكر كاتب المقال الدكتور محمد سعيد أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية
يقدّم المختصّون في شأن الإسلام السّياسي ومختلف تفرعاته داخل الوطن وخارجه،تسميات مختلفة لجماعات وتنظيمات تنتسب إلى الظاهرة ،لكنّ مايشاهده المرء من صور وفيديوهات لرياضيّين محترفين يدافعون عن الرّاية الوطنية في مسابقة قاريّة،يمارسون طقوس الصّلاة والدعاء جماعيّا بمعيّة المسؤولين المرافقين للفريق الوطني يطرح أكثر من تساؤل حول علاقة الرّياضة بالدّين ، وعن الأسباب التي أدّت إلى انتشار هذه الظّاهرة،وعن مدى وعي المشرفين بما تعنيه مثل هذه المُمارسات. أين يكمن دور السّياسي Le politiqueفي كل هذه المشهديّة التي طغت حتى ظاهرة كرة القدم التونسيّة؟
الرّياضة والدّين قديم يتجدّد عندنا
منذ العصور القديمة كانت بلاد اليونان تنظّم ألعابا رياضيّة تمارس في علاقة بآلهة جبل أولمب مسكن آلهة الإغريق.
وقد بدأ تنظيم هذه الألعاب منذ القرن الثامن ق/م.وكانت تقام كلّ أربع سنوات؛ وهي أربعة أنواع أهمها الأولمبية.كانت الألعاب مناسبات رياضية تهدف إلى تجميع سكّان المجال الإغريقي وجعلهم يشعرون بالانتماء إلى ثقافة موحّدة في غياب كيان سياسي يوحِّد كل ّ الإغريق.يستفاد من هذه الإشارات أنّ الرّياضة لم تكن منفصلة عن الشّأن السياسي والدّيني. وفي أواخر القرن 19 استطاع الفرنسي بيار دي كوبرتان إعادة إحياء التّقاليد الأولمبيّةإثرتأسيس اللجنة الأولمبيّة العالميّة في 1894إلى جانب وضع الميثاق الأولمبي الذي سيكون المرجعيّة المنظّمة لقوانين الرّياضة ومنذ 1896جرى تنظيم الألعاب الأولمبيّة بأثينا. ومن أهمّ القيم التي نادى بها الميثاق الأولمبي:نبذ التّمييزالعنصري، بناء الرّوابط العالميّة، القيم الإنسانيّة والاستدامة· الوحدة والتكافل. وهي قيم رياضيّة تتجاوز الاختلافات السّياسيّة والدّينية وتعمل على تجميع الشّعوب، ولاصِلة لها بالاحتراف السّائد في مجال الريّاضة.
السّياسة والرياضة ومعادلة الخبز والسّرك
كتب بول فاين كتابا مثيرا سمّاه الخبز والسِّرك؛[Le pain et le cirque,1976]تناول فيه سياسة الرّومان في العمل على تحقيق المعادلة الصّعبة القائمة على تأمين الغذاء للشّعب حتى لايجوع، وفي نفس الوقت توفيرأسباب الرّفاهيّة القائمة على نشر الألعاب بمختلف أنواعها. والسِّرك يقصَد به حَرفيّا ميدان سباق الخيل واصطلاحا كلّ الاحتفالات الفُرجوّية. فتجد المسارح الدّائريّة المخصّصة للمتصارعينGladiateurs،والمسارح التي تؤدّى فيها المسرحيّات بكل أجناسها. وهكذا تضمَن روما لمواطنيها الخُبزللقوت والفُرجة للتّرويح عن النفس.وكان المجتمع الروماني مجتمعا فرجويا société de spectacle بأتمّ معنى الكلمة.مع العلم أن بلادنا كانت ضمن هذا المجال الثّقافي وتشهد الآثار بذلك
.كانت الفُرجة من مقوّمات الرّومنة أو ما يمكن أن يُطلق عليه طريقة عيش على النّمط الرومانيmode de vie à la romaineولم تتراجع هذه الثقافة المَشْهديّة إلا بعد ظهور الكنيسة التي ألقت جام غضبها على هذه العادات،ولنا أمثلة كثيرة عبّر عنها كتّاب ومؤلّفون انتموا إلى المسيحيّة من ضمنهم أفارقة:تارتوليانوسوأوغيستين وغيرهما.
كرة القدم لعبة منشؤها”الامبرياليّة”تبنّتها
المستمعرات
تعدّ بريطانيا البلد المنشأ لهذه اللعبة التي طغت على كل الألعاب الجماعية الأخرى. لكنها لم تحصل على لقب بطولة العالم إلا في مناسبة يتيمة في دورة 1966 التي أقيمت بلندن وفي ظروف مشبوهة يعرفها المتابعون لتاريخ هذه المسابقة.رغم أنّ العالم الأنجلوسكسوني له رياضات جماعيّة أخرى،لاتزال كرة القدم تستنفروتثير مشاعر الكثيرين وبريطانيا هي بلد “الهوليغانز”.لكنّ كرة القدم تعكس مدى تقدم مثل هذه الدولة مقابل دول أمريكا اللاتينية،وإفريقيا.كما أنّ اللعبة لا تستنفِر تلك الإمكانيات البشرية والماليّة الهائلة، كتلك التي تسخّرها بلادنا،في دول مُصنّعة ذات اقتصاد مزدهر،مثل الصّين واليابان وكوريا على سبيل الذّكر لا الحصر، أو إيطالياوألمانيا وفرنسا وإسبانيا التي تمارس فيها اللعبة باحترافيّة كبيرة حوّلتها إلى صناعة قائمة الذات مع تحقيق نتائج باهرة على مستوى الفرق المحليّة والوطنيّة، كما تشهد بذلك مسابقات كأس القارّة أو مسابقات كأس العالم.
تونس في الارجنتين وامتصاص صدمة26 جانفي78
كل الأجيال التي عاصرت “ملحمة الأرجنتين” تتذكّر ماحدث يوم 26 جانفي1978 الذي يضيق المجال بالحديث حوله
. منذ تلك الفترة بدأت كرة القدم تحتلّ حيّزا كبيرا من اهتمام وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة،كان التّرشّح إلى نهائيّات كأس العالم مناسبة للنّظام آنذاك لامتصاص الصّدمة. وبينما كانت المدراج تعجّ بآلاف المتفرّجين، كانت السجون تعج بالآلاف من الشّباب الذين كان لهم رأي مخالف للتّوجّه العام للنّظام
.ومنذ تلك الفترة نجحت فكرة نشر”الثّقافة الكرويّة”التي شملت كل أصناف المجتمع ومختلف الفئات، وأدُمجت المرأة ضمنها.وصارالتّونسي يؤثّث الأسبوع بالحديث عن المقابلة الفارطة في أوّله،ثم المقابلة القادمة في النصف الثاني منه.
المشهد الحالي وبؤس الكرة
يأتي الاختراق السلفي في ذات السياق في محاولة الاستحواذ على الشّباب عملا بالقاعدة التي تنادي بالتّواجد بين صفوف الجماهير.
بدأ هذا الاختراق منذ أواخر السّبعينات على مستوى الجماهير التي كانت تطلق”الكُرات الهوائيّة ” من المدارج وقد كتبت عليها شعارات مضادّة للنّظام تحمل بصمات الإخوان.كما تسرّب هذا التأثير إلى اللاعبين المنتمين للفرق الكبرى وتحضرني أسماء كثيرة للاعبين مشاهير،أعرض عن ذكرها.فاللاعب يمثل بالنّسبة للمراهق خاصّة قُدوة ونموذجا يقتدى به، من هنا تأتي خطورة الموقف فكلّ ما تحاول المدرسة والأسرة بناءه تأتي الكرة وتهدمه بين عشيّة وضحاها.
كما نتساءل عن دور اللاعبين من مزدوجي الجنسيّة في نشر ثقافة “البؤس الكُروي”،برغم أنّهم ينشُطون في فرق محترفة مشهورة، فأيّ احتراف هذا الذي يُخْلَطُ فيه لاعب بين الذّاتي وبين مصلحة الفرق الذي تدفع لهم أعلى الجرايات؟ احتراف بعقلية”قَروُسطيّة”،ووعْيٍ زائف.وفي هذا الصّدد أفادني أحد الأصدقاء من العارفين بشأن المنتخب ومن المتابعين لهذا الشأن ،أنّه من جملة سبعة وعشرين لاعب[ العدد المُكوِّن للتشكيلة]، لايوجد سوى خمسة لاعبين ينتمون إلى البطولة الوطنيّة.
حين يطّلع على هذه الوضعية، يدرك المشاهد ملابسات “الميلودراما” التي يمثلها لاعبون نشأوا خارج المحضن التّونسي،ثقافيّا ورياضيّا.وهو مايجعله يتساءل عن محلّ هذه المَشاهد من الإعْراب في ظِلّ فشل المُهِمّة؟ وماهي الرّسائل التي يراد توجيهُها؟ أم هي عقليّة التّواكل ورمي الفشل على الغيب؟ أم هو هروب من تحمّل المسؤولية؟
فشل الوهم الكروي في تغطية قبح الواقع
يشعر المرء أنّ الوهم قد فقد بريقه ولم يعد مُغْرِيًا،ولم يعد نافعا في القيام بدور المضادّ للصّدمات pare- choc لطمس التّناقضات المتفاقمة في غياب الفُرجة النّوعيّة على مستوى البطولة،وعلى مستوى مشاركات المنتخب برغم تعزيزه بلاعبين ينشُطون في الخارج ضِمْن أعتى الأندية حتى غدا منتخبنا كأنه “منتخب مرتزقة” في ظلّ العقم الذي تشهده البطولة الوطنية. ومن مظاهر فشل هذه المنظومة انتشار ظاهرة العنف ذات الصّلة بالملاعب واللعبة، والتّحشيد الذي تمارسه وسائل الإعلام؛ تحشيدٌ من شأنه أن ينشر الكُرْهَ والحقد والعنف كلما سنحت الفرصة، وكأنّنا في حالة حرب أهليّة؛ هذا مايشعر به المراقب للشّأن حين يستمع إلى تعليقات بعض الصُّحفيّين وحتّى اللاعبين. ويتناسى الجميع أنّها رياضة كما قال معروف الرّصافي:”قصدوا الرّياضة لاعبين وبينهم كرة تراضُ بها الأجسام”.
إنّ الإفراط في استعمال “الكورة” في غير محلّها هو سلاح ذو حدّين.فلا تطوّرت هذه الرّياضة الجماعيّة والجماهيريّة على مستوى الفُرجَة وتأطير الشّباب،وما إلى ذلك من تنمية قطاعات ملحقة بها- بما أنّها صارت صناعة بأتم معنى الكلمة-،ولا نجحت في امتصاص بؤس الوضع الاجتماعي كما أُريدَ لها.وهنا أستحضر مقُولة كارل ماركس الشهيرة:”الدّين أفيون الشعوب”،وهو محقّ في ذلك؛إذ أنّنا لو طبّقنا ذلك على الوضع الحالي لقُلنا بأنّ الأفيون ضروري لمعالجة الأمراض والتّخفيف من شدّة الآلام،وهذا لايختلف فيه عاقلان.لكنّه يتحوّل إلى عامل هدم وتدمير لو صار مادّة استهلاكيّة تُدمِّر من يتعاطاها وتؤثِّر على محيطه.هذا هو التديّن المفرط يتحول إلى سلاح فتّاك في يد من ليس له اطّلاع على الظّروف الملمّة بظهوره وتطوّره وما يتبع ذلك من تأثيرات مختلفة معروفة في التّاريخ.ولوكان كارل ماركس حيّا بيننا لقال أيضا:إنّ كرة القدم أفيون الشعوب.فعلا هي كذلك. أريدَ لها أن تساعد على طمس التّناقضات الاجتماعيّة وهو ما حصل في بلدان أمريكا اللاتينيّة التي تملك أكبر مخزون من الفرق ومن اللاعبين المهرة المحترفين منذ ثلاثينات القرن الماضي.لكن الإفراط في استعمالها يؤدّي إلى مانشاهده من وضعيات أشبه بالسرياليّة.
حق التونسي في الفرجة والفرحة
أقول قولي هذا وأعترف أنني غير معني بالكرة لأني كمن قد نذرت أن لا تطأ قدماي ملعب كرة قدم ماحييت وانا على العهد.كما أود الإشارة أن هذه الأفكار لا علاقة لها بالنتائج الأخيرة الفريق الوطني،مع كل التقدير لكل لاعب أو مسؤول أو مدرّب، ولاهي موجهة ضد عشاق هذه اللعبة الجماهيرية الذين يبقى من حقهم التمتع بالفرجة ،فرجة يخلقها أداء جيد على الميدان واستماتة في الدفاع عن الراية الوطنية .
يأتي هذا النصّ في إطار محاولة لفهم ظاهرة أشبه ما يكون بالسرياليّة تضاف إلى المشهد التّونسي. فنحن أمام منظومة صارت تفتقر إلى الشفافيّة ويحيط بها كثير من الممارسات، لأن شرف الدفاع عنها مسؤولية كل المجموعة المشرفة على الفريق الوطني.كما أن تحقيق الفرجة الممتعة ،بغض الطرف عن النتيجة، يكون ببذل الجهد على قدر الأموال التي دفعتها المجموعة الوطنية ،إن لم يكن يحركهم حب العلم.كم يقبض اللاعب خلال كل مقابلة مع الفريق الوطني؟ هل يدفع اللاعب ضرائبه لميزانية الدّولة كما يدفعها للبلد الذي يقيم به وينشط فيه؟ وهل أنّ مبدأ التعويض وحضور الرمزي كطقس يفسّرغياب النّجاح على الميدان،هل أنّ دور اللاعب استعراض تديّنه الكرنافالي في مشهد يطغى عليه الرّياء والورع الكاذب، كلّ ذلك بأموال دافع الضّرائب؟كما لا يخفى على أيّ كان أنّ تحقيق نتائج إيجابيّة لا يتمّ بتلك الممارسات التي تعكسها المشاهد التي تنمّ عن إفلاس في الإعداد والبرمجة واستهتار من اللاعب بانتظارات الجماهير التي تدفع من دمها تلك الأموال الطاّئلة التي تدفع للاعبين. إن تلك المشاهد تحاول أن تغطّي كثيرا من الحقائق المرّة.فهل يمكن القول بأن سقوط معادلة السّرك والخُبز جعلت التّونسي محروما من الجهتين؟
محمد سعيد
أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية
*هذه التسمية مستوحاة من المشاهد التي فرضت نفسها على كل متابع للشأن الرياضي بمناسبة دورة كأس إفريقيا للأمم في نسختها 2024.كما نشيرإلى أن هذا النصّ ليس موجّها ضد ّ أي طرف ذي علاقة بالشأن الرياضي،خاصة كرة القدم،بقدرماهو محاولة لإثراء النقاش بين من يروم البحث في مثل هذه الظواهر المتصلة بكرة القدم.