الكورونا توطد علاقات الصين بروسيا،ولكن إلى متى؟
هل تستفيد روسيا من الصراع الصيني الأمريكي الذي تفاقم بعد أزمة كورونا، أم أنها ستكون ضحية لهذا الصراع، حتى لو بدا في مصلحتها للوهلة الأولى.
كان فلاديمير بوتين واحداً من أبرز قادة العالم دفاعاً عن الصين في أزمة كورونا، بل إن وسائل الإعلام الروسية كانت تروج لنظريات المؤامرة التي تتحدث عن دور أمريكي مزعوم في نشر الفيروس، لتنضم لبكين في مواجهة واشنطن في الحرب الكلامية حول منشأ الفيروس.
يبدو أن أزمة فيروس كورونا ستكون محطةً مهمةً للغاية في تاريخ العلاقات الصينية الروسية المتقلبة، والتي تاريخها مختلف كثيراً عن حاضرها
عداء تاريخي بين روسيا والصين
لم تكن العلاقات الصينية الروسية دوماً على ما يرام كما هي الآن، فتاريخياً كان هناك عداء بين البلدين، نابع من التوسع الروسي في شرق آسيا، تحرك الروس بأسلحتهم النارية ومدافعهم مزيحين الصينيين بحضارتهم العتيقة عن مكانة القوة الأولى في الشرق الأقصى (وانتزعت موسكو مناطق كانت تابعة اسمياً للصين خلال تحرك جيوشها نحو المحيط الهادي).
وحتى عندما أصبحت الصين شيوعية وجزءاً من المعسكر الشرقي لم يلبث أن تصارع البلدان وحدث انفصال أليم بين قطبي الشيوعية، وصل لاشتباكات عسكرية محدودة.
ولكن أزمة سابقة وثّقت العلاقة بين البلدين
وجدت الصين نفسَها وحيدة في الساحة الدولية، بعد قمعها للاحتجاجات الطلابية بساحة تيانانمن 1989، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
أثار القمع العنيف إدانة واسعة النطاق من الغرب، وبعد ذلك بوقت قصير فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حظراً على توريد الأسلحة للصين، لا يزال قائماً حتى يومنا هذا.
في السنوات اللاحقة وجدت بكين شريكاً غير متوقع في روسيا ما بعد الشيوعية. لقد دمر انهيار الاتحاد السوفييتي صناعة الأسلحة الروسية مالياً، وهو ما جعلها حريصة جداً على القيام بأعمال تجارية مع الصين الصاعدة اقتصادياً. خلال العقد التالي اشترت الصين طائرات مقاتلة وأنظمة صواريخ روسية كجزء من سعيها للتحديث العسكري، وظهرت كأكبر عميل لروسيا في هذه العملية.
والآن أزمة فيروس كورونا تقرب بينهما أكثر
بعد أكثر من ثلاثين عاماً يمكن لأزمة جديدة أن تقرّب مرة أخرى الصين وروسيا من بعضهما البعض.
أدى تفشي فيروس كورونا خلال الأشهر القليلة الماضية إلى ردة فعل دولية، أو بالأحرى غربية ضد الصين.
وسط هذه الأزمة كانت روسيا من بين الدول القليلة التي انحازت إلى جانب الصين ضد منتقديها.
مع تحول الأزمة الصحية العالمية الحالية إلى منعطف جيوسياسي متزايد، تتطلع موسكو وبكين إلى بعضهما البعض للحصول على الدعم.
لقد ألقت الجائحة بظلالها على صورة الصين العالمية في الأشهر الأخيرة، فضلاً عن مصالحها التجارية في الخارج. وقادت الولايات المتحدة موجة الاتهام ضد بكين، حيث ألقت إدارة ترامب باللوم على الصين في تفشي المرض، وهدد عدد متزايد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين باعتماد تشريع عقابي ضد بكين.
اتهمت العديد من الحكومات الأوروبية الصين بالسعي إلى استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية وإرسال معدات اختبار خاطئة لها.
حتى إن العديد من شركاء الصين الأفارقة المقربين انتقدوا بكين بسبب تقارير تفيد بالتمييز ضد مواطنيهم كجزء من قيود الصحة العامة.
كما تحركت العديد من الدول ذات الوزن الثقيل في آسيا لتقليل اعتمادها على الصين. أعلنت اليابان في وقت سابق من هذا الشهر أنها ستقدم حوافز مالية للشركات المحلية لنقل إنتاجها في الصين إلى الوطن.
أما الهند فقد أدخلت قيوداً جديدة على الاستثمار الأجنبي لمنع ما يوصف بـ”الاستيلاء الانتهازي” لشركاتها من قِبل المشترين الصينيين.
الصوت الأعلى في الدفاع عن الصين
برزت روسيا كواحدة من المدافعين القلائل عن الصين، والصوت الأعلى في هذا الصدد على المسرح العالمي.
فقد استنكر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف المطالبات الموجهة للصين، لدفع تعويضات عن الأضرار الناجمة عن جائحة الفيروس التاجي ووصفه بأنه “غير مقبول” وصادم.
وبالمثل، رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانتقادات بأن الصين لم تتصرف بسرعة كافية لاحتواء الوباء خلال مكالمة هاتفية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في 16 افريل
ونوه بما وصفه بـ”الإجراءات الفعالة” التي اتخذتها السلطات الصينية لمكافحة الفيروس.
واعتبر أن الأزمة كانت بمثابة “دليل إضافي على الطبيعة الخاصة للشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا”.
هل تستفيد روسيا من الصراع الصيني الأمريكي الذي تفاقم بعد أزمة كورونا؟
بينما تفكر العديد من الدول في تخفيض علاقاتها الاقتصادية مع بكين مؤخراً، فقد تحركت موسكو لتعزيزها.
وأعلن الكرملين مؤخراً أنه يمنح الإذن لصندوق الرفاه القومي الروسي لبدء الاستثمار في اليوان الصيني وسندات الدولة الصينية.
وتتطلع الحكومة الروسية أيضاً إلى مشاريع كبيرة جديدة مع الصين بمجرد أن تتراجع حدة الوباء، بما في ذلك خط أنابيب غاز جديد إلى الصين وخط سكة حديد جديد طموح يربط موانئ القطب الشمالي والمحيط الهندي.
من جانبها، تحركت بكين لشراء المزيد من النفط الروسي مع انخفاض الأسعار العالمية.
وأفادت رويترز أن واردات الصين من النفط الخام الروسي زادت في مارس بنسبة 31% عن العام السابق. وساعدت مشتريات النفط المتزايدة من الصين شركات النفط الروسية على البقاء على قيد الحياة، وسط انخفاض الطلب في أوروبا بسبب الفيروسات التاجية، والتي أضيف لها المنافسة السعودية.
الرهان الروسي قديم
إن اهتمام روسيا بعلاقات أوثق مع الصين ليس بالأمر الجديد. منذ عام 2014، لجأت موسكو بنشاط إلى بكين للمساعدة في تعويض الضغط من الغرب. وقال أليكسي ماسلوف، مدير معهد دراسات الشرق الأقصى في الأكاديمية الروسية للعلوم، إن ما أحدثه هذا الوباء هو إقناع روسيا كذلك بأن الصين هي المستقبل.
وقال: “يُنظر إلى الصين على أنها دولة لم تهزم فقط الفيروس التاجي، ولكنها نجحت أيضاً في التغلب على الصعوبات الاقتصادية”. “علاوة على ذلك يتوقع الكثيرون أن تبدأ الصين بنشاط في توسيع نفوذها والترويج لنموذج جيوسياسي جديد، بمجرد أن تتعامل مع التحديات الداخلية”.
لماذا تحتاج الصين إلى روسيا في رحلة صعودها؟
جادل ماسلوف بأن الصين ستحتاج إلى شريك قوة عظمى مثل روسيا لمساعدتها في تحقيق طموحاتها العالمية بعد الإصابة بفيروس كورونا، خاصة وسط تزايد التراجع عن الولايات المتحدة.
وقال إن موسكو يمكنها استخدام هذا النفوذ لكسب دعم بكين لمبادراتها الجيوسياسية.
كما تستكشف الصين تعاوناً أكبر مع روسيا. تنبأ شين تشانغ، خبير العلاقات الصينية الروسية بجامعة شرق الصين العادية في شنغهاي بأنه في حالة استمرار تدهور العلاقات مع واشنطن فإن بكين سوف تركز بشكل أكبر على تطوير العلاقات الاقتصادية مع موسكو.
وقال: “إذا أصبح الانفصال (بين الولايات المتحدة والصين) حقيقة بدلاً من مجرد كلمة على طاولة المفاوضات، ولذا فسوف تنظر الصين إلى روسيا وأوراسيا كوجهات محتملة لإعادة هيكلة سلاسل الإنتاج الصناعي”.
إيجاد بديل الدولار هو نقطة تلاقٍ مهمة للطرفين
أشار شين إلى أن أحد المجالات المعينة التي من المرجح أن تسرع فيها روسيا والصين تعاونهما بعد فيروس كورونا هو الدولار.
فقد اتَّخذ البَلَدان على مدى السنوات القليلة الماضية بعض الخطوات الأولية لتقليل اعتمادهما على الدولار الأمريكي.
لكن اهتمام بكين المنخفض بالعملية أدى إلى تباطؤ التقدم بشكل كبير. وقال شين إن التوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة ستغير ذلك.
رغم كل هذه السيناريوهات.. روسيا قد تتضرر
ومع ذلك، يشعر البعض في موسكو بالقلق من أن تتضرر روسيا من حرب خاسرة جديدة بين الولايات المتحدة والصين. حذر ديميتري سوسلوف، أستاذ العلاقات الدولية في المدرسة الوطنية العليا للاقتصاد في جامعة البحوث الوطنية في موسكو، من أن روسيا استفادت في السابق من زيادة التوترات بين واشنطن وبكين، إلا أن التطورات الأخيرة تهدد بالذهاب بعيداً جداً.
وقال: “إن استمرار تكثيف المواجهة بين الولايات المتحدة والصين يطرح على روسيا تحديات خطيرة، لأنه كلما ازدادت خطورة هذه المواجهة زاد الضغط على روسيا لاختيار جانب، وهو أمر لا تريد القيام به”.
أصبحت سياسة الصين الخارجية الحازمة بشكل متزايد مصدر قلق آخر لموسكو، حسب سوسلوف.
ففي خضم جائحة كورونا تبنّت بكين نوعاً جديداً من “دبلوماسية محارب الذئب” حسب تعبيره، وهو نهج أدى إلى انخراط العديد من السفراء الصينيين في خلافات رفيعة المستوى مع الدول المضيفة لهم.
وقال سوسلوف: “بالنسبة لكثير من المراقبين الروس يبدو أن الفيروس التاجي قد دمّر قيداً نفسياً وسياسياً آخر على السياسة الخارجية للصين.
في السابق كان هذا القيد النفسي يمنع الصين من الترويج لنفسها كنموذج للآخرين، وتأكيد نفسها كزعيم عالمي”.
على مدى العقد الماضي، طالبت روسيا والصين بـ”مبدأ عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للآخرين.
في الواقع، كان كرههم المشترك لجهود الولايات المتحدة لتعزيز الديمقراطية العالمية بمثابة نقطة تجمّع رئيسية للبلدين. ومع ذلك، حذر سوسلوف من أن الصين بعد أن أصبحت مقدامة يمكن أن تطالب روسيا في نهاية المطاف بأن تحذو حذوها.
فعلياً تمارس روسيا أدوار الدولة العظمى، رغم أنها لا تمتلك من مقومات الدولة العظمى سوى أسلحة نووية وقدرتها على التصنيع العسكري، واحتياطي نقدي كبير، مع سياسة خارجية استخباراتية نشطة تجيد اختيار التحالفات، والاستفادة من أخطاء الغرب وتراجعاته كما حدث مع تركيا، وفي سوريا.
ولكن من الناحية الواقعية روسيا أقل كثيراً من الصين اقتصادياً وتكنولوجياً، وبطبيعة الحال أمريكا.
كان الناتج المحلي لروسيا أقل من كندا الجارة الصغيرة للولايات المتحدة عام 2018، واحتلت المرتبة الحادية عشرة من حيث حجم الناتج المحلي في العالم، وفقاً لأرقام 2019، بينما الناتج المحلي الصيني هو الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة، بل إن بكين الأولى من حيث حجم الناتج المحلي إذا احتسب وفقا للقوة الشرائية.
وكان جزء من قدرة روسيا على ممارسة دور الدول العظمى هو الزهد الصيني في تأدية هذا الدور، إضافة إلى حاجة بكين لروسيا في شراء المعدات العسكرية المتقدمة التي تفتقدها.
ولكن اليوم تتراجع الفجوة في مجال التكنولوجيا العسكرية بين الصين وروسيا، فإذا كان لديها برنامج لإنتاج طائرة شبحية من الجيل الخامس فإن بكين لديها برنامجان (حتى لو كانا أقل في المستوى من نظيرهما الروسي)، كما أن لدى بكين برنامج لإنتاج قاذفة استراتيجية قطع شوطاً طويلاً.
تعودت روسيا على الصين المتواضعة رغم قوتها، أما اليوم فالصين تبدو متلهفة على استعراض مكانتها كدولة عظمى، ومن شأن ذلك أن يجعل لها سياسات خارجية أكثر قوة، وقد يكون هذا مشكلة في أماكن تنافس البلدين التقليدية كآسيا الوسطى.
لقد شاهدت روسيا حتى الآن معركة الصين ضد الفيروس التاجي بإعجاب، فهل يمكن أن تهدد الكثير من الانتصارات في بكين بتحويل هذه المشاعر الدافئة إلى استياء؟.