تحليل: دستور “25 جويلية”.. سعيد يدوّن ملامح “جمهوريته” الغامضة في تونس
من خلال مشروع الدستور الجديد يسعى الرئيس سعيّد إلى تدوين صفحة جديدة في تاريخ تونس على غرار كبار المصلحين الذين مروا بها. بينما يرى معارضون لخطواته بأنه بصدد إرساء نظام سلطوي. فما ملامح النظام الذي يتضمنه مشروع الدستور؟
كما تقرأ في توطئة “دستور عهد الأمان” أول دستور في تاريخ تونس صدر سنة 1857 بصمات الأب الروحي للإصلاح السياسي في تونس “خير الدين التونسي”، وفي دستور 1959 الذي صدر أيضا في تاريخ 25 “جويلية”، ملامح رؤية مؤسس دولة تونس المستقلة الحبيب بورقيبة، وصولا إلى دستور 2014 الذي يجسد العقد الاجتماعي، الذي توصلت إليه القوى السياسية والمجتمعية بعد ثورة 2011، ها هو الرئيس قيس سعيّد يطرح وثيقة دستور جديد يريد أن يدوّن من خلالها صفحته الخاصة به في تاريخ تونس الحديث، أطلق عليها “الجمهورية الجديدة”، فما هي ملامحها وهل ستحظى بـ”شرعية” البقاء؟
بصمة شخصية
رغم معارضة طيف واسع من الأحزاب والنخب السياسية وهيئات المجتمع المدني، مضى الرئيس سعيّد منذ تاريخ 25 جويلية 2021 دون هوادة في خطواته في تفكيك مؤسسات الديمقراطية الناشئة الواحدة تلو الأخرى: البرلمان، الحكومة، المجلس الاعلى للقضاء.. وصولا إلى وثيقتها التأسيسية (دستور 2014) التي صدرت بإجماع سياسي ومجتمع واسع.
ولإعداد وثيقة الدستور الجديد رفض الرئيس سعيّد إجراء حوار مع القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني، واتهمها بالفساد كما اعتبرها مسؤولة عن الأزمة السياسية والاقتصادية التي آلت إليها أوضاع البلاد ونتجت عنها احتجاجات 25 جويلية 2021 التي أعقبتها قرارته بإقالة الحكومة وتجميد البرلمان وحله لاحقا، وتعطيل معظم فصول الدستور، وجمع السلطات التنفيذية والتشريعية بيديه عبر مرسوم رئاسي(رقم 117) صدر في سبتمبر2021.
وحتى مسودة الدستور التي أعدتها اللجنة الاستشارية لإعداد الدستور التي شكلها من أطياف معظمها مؤيدة له، فقد تجاوزها وأدخل عليها تعديلات عديدة في فصول جوهرية، قبل نشرها أول من أمس في الرائد الرسمي لتطرح على الاستفتاء يوم 25 جويلية الحالي، وفق ما كشف ابراهيم بودربالة عميد هيئة المحامين والعضو بالهيئة الاستشارية مشيرا في تصريحات لوكالة الأنباء التونسية الرسمية إلى “تقاطعات بين النسختين” على مستوى الحقوق والحريات وشكل النظام السياسي ودعم استقلال القضاء والهوية التونسية”.
وهي ليست المرة الأولى التي يفاجئ فيها سعيّد أقرب مساعديه أو مسانديه، بالمضي في قرارات من بنات أفكاره، لأن الرجل لطالما كان واضحا في خطاباته وأفعاله بأنه صاحب القرار الوحيد “المفوض” من الشعب.
ومن خلال مشروع الدستور الجديد يدخل الرئيس سعيّد في السرعة النهائية لتدوين صفحته الخاصة في تاريخ تونس الحديث، وقد أطلق عليها “الجمهورية الجديدة”، وهو يريدها ببصمته الخاصة كما يعتبرها منعطفا “تاريخيا” في البلاد وبأنه يقدم من خلالها رؤية جديدة للحكم تخرج كثيرا عن نظريات الحكم والديمقراطيات القائمة في العالم. وهو بذلك يضع نفسه في مقام المصلحين الذين لعبوا أدوارا تاريخية.
نظام حكم “رئاسوي”
يمنح مشروع الدستور سلطات واسعة لرئيس الدولة، فهو يأتي على رأس السلطة التنفيذية حيث يتولى تعيين رئيس الحكومة وأعضائها باقتراح من رئيس الحكومة وله سلطة عزلها تلقائيا. وهو من يحدد السياسات العامة للدولة والاختيارات كما يحق للرئيس الترشح لولاية ثانية فقط.
كما يعطي الدستور صلاحيات أخرى واسعة للرئيس كحل البرلمان، ومجلس الجهات والأقاليم بحسب القانون، وتعيين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة وتسمية القضاة.
ويمنح مشروع الدستور الرئيس حصانة كاملة، إذ لا يشير إلى أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من قبل باقي المؤسسات الدستورية، ولا إلى شروط سحب الثقة منه أو عزله؟
وفي المقابل حوّل الدستور القضاء والتشريع من سلطتين إلى وظيفتين. وخصص الدستور مجلسا وطنيا للجهات والأقاليم كغرفة ثانية إلى جانب البرلمان. ولا يتمتع البرلمان وفق مشروع الدستور سوى بصلاحيات رقابية محدودة على الحكومة.
وبذلك يغير سعيّد ملامح النظام السياسي في تونس من نظام شبه برلماني (دستور 2014) يشكل البرلمان سلطته المحورية وبسلطات محدودة للرئيس، إلى نظام رئاسي تتجاوز فيه صلاحيات الرئيس كما هو متعارف عليه في الأنظمة الرئاسية في الديمقراطيات الحديثة (مثلا فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية).
وبرأي خبراء في القانون الدستوري فإن الدستور الجديد لا يمهد لقيام نظام حكم رئاسي وحسب، بل لنظام رئاسوي، كما وصفته اللجنة الدولية للخبراء القانونيين، وهي منظمة غير حكومية مقرها جنيف. وهو بذلك يعيد تونس إلى نظام ما قبل الثورة والديمقراطية، كما يقول معارضو الرئيس سعيّد، ومنهم أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك القيادي بحركة “مواطنون ضد الانقلاب والمنضوية بـ”جبهة الخلاص الوطني”، إن “النظام السياسي منقول حرفيا عن دستور بن علي ويضرب في مقتل مبدأ التوازن” بين السلطات.
ويمهد مشروع الدستور الجديد في حالة التصويت عليه بنعم في استفتاء يوم 25 جويلية لانتقال تونس من مرحلة حالة شلل واختلالات واجهت مؤسسات نظامها السياسي المنبثقة من ديمقراطية ناشئة إلى نظام حكم تتمركز فيه السلطات بيد الرئيس، وفي دوامة بحث محموم عن الفعالية والانسجام التي افتقدها نظام دستور 2014 في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية بالخصوص إبان جائحة كورونا، وهو وضع طالما وصفه سعيّد بـ”الخطر الداهم” وسوّغ به قراراته وخصوصا المرسوم الرئاسي 117 الذي يجمع من خلاله السلطات، يعود هذا المسار بالبلاد إلى حقبة تمتزج فيها توجهات سعيّد الشعبوية والثورية ونزعته للاستئثار بالسلطات مع سعي قوى الدولة العميقة لاستعادة نفوذها على مقاليد السلطة وجماعات ضغط اقتصادية لا تتوانى من أجل الحفاظ على مصالحها الريعية، وفي هذه الدوامة تلوح نُذر عودة البلاد إلى الحكم الفردي.
إشكالية الإسلام والدولة
تشكل مسألة العلاقة المعقدة بين الدين الإسلامي والدولة، إحدى الإشكاليات التاريخية التي رافقت نشأة وتطور الدولة التونسية الحديثة منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956. إذ بدأت مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي لم يكن يخف توجهاته لإبعاد نفوذ المؤسسة الدينية التي كان يرمز إليها جامع الزيتونة التاريخي وتتألف من العلماء والمشائخ وهيئات الأوقاف والتعليم الزيتوني والقضاء الشرعي. وتبلور المنحى التحديثي والعلماني في الدولة التونسية الحديثة من خلال دستور 1959 وبعض القوانين الأساسية (أعلى من القوانين العادية وتحت الدستور) وخصوصا منها مجلة الأحوال الشخصية وفي نظام التعليم.
لكن بورقيبة الذي أطاح عبر المجلس التأسيسي بالنظام الملكي الذي كان يجسده حكم البايات المستند إلى نظرية “الخلافة الإسلامية” على الطريقة العثمانية، اعتمد عند تأسيسه لـ”الجمهورية الأولى” نهجا براغماتيا في التعامل مع مسألة العلاقة بين الدين الإسلامي والدولة، إذ نص دستور 1959 على أن “دين الدولة هو الإسلام”.
ورغم صراعهم التاريخي مع بورقيبة حول قضايا الدين والهوية، فقد أقر إسلاميو حزب حركة النهضة بعد سجالات عديدة في إطار المجلس التأسيسي الذي انتخب إثر الثورة في اكتوبر 2011 حول مصادر التشريع والمساواة بين المرأة والرجل، بالحفاظ على نفس البند في الدستور المصادق عليه في نهاية جانفي 2014.
وبينما كانت الأوساط الإعلامية والسياسية تخوض في جدل واسع حول تصريحات للرئيس سعيّد ولرئيس اللجنة الاستشارية لإصلاح الدستور أستاذ القانون الدستوري العميد صادق بلعيد ومساعده أمين محفوظ، تقول إن مسودة الدستور الجديد لن تتضمن بند “الإسلام دين الدولة” الوارد في الباب الأول من دستور 2014. فاجأ سعيّد الجميع بمن فيهم أعضاء اللجنة الاستشارية، بوضع صيغة جديدة، إذ تنص المادة الخامسة من الفصل الأول من الوثيقة المطروحة للاستفتاء، على أن “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”.
وفتحت هذه الصيغة سجالا واسعا في أوساط النخب والطبقة السياسية والمجتمع المدني وحتى الدينية.
وتتلخص الفكرة الأساسية المثيرة للجدل والتأويلات، في نقطتين أساسيتين:
أولا: أن عبارة “تعمل الدولة على تحقيق مقاصد الإسلام” الواردة في المادة الخامسة من مشروع الدستور، تمنح الدولة وظيفة دينية عامة تتجاوز مفهوم “الشؤون الدينية” المتعلقة بتنظيم شؤون العبادات ومراكزها، إذ يشير متخصصون بأن فكرة “مقاصد الدين” هي عنوان تيار فقهي وفكري في تاريخ الإسلام ينطلق من مؤسسه إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي (القرن الثامن هجري، الرابع عشر ميلادي) وصولا إلى العالم الزيتوني (نسبة لجامع الزيتونة) محمد الطاهر بن عاشور، كما تشكل هذه الفكرة مرجعية لبعض منظري “الإسلام السياسي” في المنطقة المغاربية، ومن أبرزهم المغربي أحمد الريسوني والتونسي عبد المجيد النجار.
وتثير التأويلات المتناقضة لهذا البند انقساما في الآراء في تونس، بين ترحيب أوساط محافظة ومخاوف ليبراليين وعلمانيين يعززها أيضا حذف صفة “مدنية الدولة” المنصوص عليها في دستور 2014. ورغم أن مشروع الدستور الجديد حافظ على البنود المتعلقة بالحريات الفردية والعامة، إلا أن توجهات الرئيس سعيّد المحافظة في قضايا مجتمعية كالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث وحقوق مثليي الجنسية وتصوراته لدور الدين، تثير مخاوف من تراجعات تكون نتيجة اعتماده على هذا البند.
وهنالك من يرى أن المخاوف من تأويلات من شانها تضرب الحريات الفردية أو الجماعية، تتجاوز سعيّد نفسه إلى ما بعده. فحتى إذا التزم بالحفاظ على الحريات الفردية، فمن الممكن أن يأتي رئيس من بعده تكون له توجهات أكثر محافظة ويذهب في تأويل متشدد لهذا البند بما يؤدي إلى سلطات دينية واسعة للدولة تقوض ما تبقى من أسسها المدنية والديمقراطية المحدودة أصلا.
ثانيا: بقدر ما يثير نص المادة الخامسة من مشروع الدستور على أن “على الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام”، ترحيب أوساط محافظة في المجتمع التونسي، فهو يثير أيضا مخاوف أحزاب الإسلام السياسي، وعلى رأسها حزب النهضة المتصدر في البرلمان المنحل. إذ يمكن أن يفسر هذا البند على أنه مقدمة لفكرة يروجها عدد من مؤيدي الرئيس سعيّد منذ 25 جويلية الماضي، تتمثل في حظر تأسيس أحزاب إسلامية. وبما أن قانون الأحزاب يوجد في مقدمة أجندة الرئيس في أفق الانتخابات التشريعية المقبلة، فإن تلك الأحزاب تظل في مرمى سعيّد الذي يرى فيها خصما رئيسيا له.
حلم سعيّد ومعركة الشرعية
بالنسبة لكثير من المراقبين، فإن موعد الخامس والعشرين من يوليو تموز الحالي، لن يحمل مفاجأة، فرغم حملات المقاطعة التي شنتها قوى معارضة حتى قبل ظهور وثيقة مشروع الدستور اعتماد على اتهام سعيّد بـ”الانقلاب” على المؤسسات الديمقراطية وبأن “ما بني على باطل فهو باطل”، لا يبدو أن حملات المعارضين ستغير المعادلة في صناديق الاقتراع، إذ يرجح أن يكسب الرئيس سعيّد – اعتمادا على شعبيته رغم تأرجحها أحيانا – تأييد الأغلبية لمشروع الدستور في الاستفتاء، حتى ولو كانت أغلبية محدودة.
وفي مناخ إقليمي وعالمي متقلب بالأزمات والحروب وصعود موجة الشعبوية، يجد سعيّد بعض الدعم من دول وقوى بالمنطقة مناوئة لقيام ديمقراطية في مهد “الربيع العربي” واستثنائه الوحيد، لكن التحدي الأساسي في طريقه لإرساء “الجمهورية الثالثة” في المستقبل المنظور يكمن داخليا في ثلاث محاور:
أولا: مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجهها البلاد، والخروج بها من مخاطر الوقوع في سيناريو إفلاس الدولة، الذي حذرت منه تقارير للبند الدولي وصندوق النقد ومؤسسات مالية أخرى. وهنالك مؤشرات دالة على بدء مركزية الإتحاد العام التونسي للشغل، ذات النفوذ الكبير في البلاد، إضرابات عامة احتجاجا على إصلاحات اقتصادية يطلبها صندوق النقد الدولي مقابل تقديم حزمة إنقاذ مالي كما أشار إلى معارضته للاستفتاء.
ثانيا: منذ توليه للحكم سنة 2019 وحتى بعد استئثاره بالسلطات في الدولة في يوليو من العام الماضي، لم يقدم سعيّد رؤية واضحة عن خططه لمعالجة المشكلات الاقتصادية الرئيسية، لكنها كانت كثيرا ما تشمل خطبا حادة ضد منتقديه ومعارضيه، مما أثار مخاوف من أن الرئيس يسعى لتحقيق أهداف استبدادية. وما يعزز هذه المخاوف أن مشروع الدستور تضمن مواد تتعلق بانتخاب مجالس محلية بينما لم ينص بوضوح على أن مجلس النواب سيكون منتخبا بشكل مباشر، مما يحمل بعض المحللين على الاعتقاد بأنه بذلك يضع أسس “النظام المجالسي القاعدي” الذي سبق أن دعا إليه ويعتبر حلمه الأساسي، والوسيلة الناجعة لتحقيق رغبات الشعب، كما يقول.
وفي هذه الحالة لن يكون سعيّد فقط في مواجهة مع خصومه السياسيين التقليديين، بل يمكن أن يصطدم بقوى مؤيدة له من داخل الدولة، قد ترى في إقامة نظام “قاعدي” بمثابة تفكيك لبنيات الدولة.
كما يتزامن طرح هذا المشروع مع دعوة الرئيس لإنشاء شركات أهلية لتحقيق التنمية المحلية، وهي فضلا عن كونها فكرة غير واضحة الملامح من الناحية الاقتصادية بالنسبة للخبراء، كما أنها قد تشكل مسألة مثيرة للقلق لدى جماعات مصالح اقتصادية ترى بأن مصالحها ستكون مستهدفة بشعار “مكافحة الفساد” الذي يعتبر حجر زاوية في خطب الرئيس سعيّد منذ توليه للسلطة.
ثالثا: بعد استفتاء 25جويلية الحالي، يتوقع أن يواصل معارضو الرئيس سعيّد من أحزاب ومنظمات مجتمع المدني، حملاتهم السياسية والإعلامية ضد الدستور ومخرجاته، تحت شعار “عدم شرعيتها”. بيد أن تشتت قوى المعارضة وهيمنة النظرة السلبية للطبقة السياسية لدى قطاعات شعبية واسعة، وإحجامها عن إجراء مراجعات وتقييمات للأسباب التي آلت إليها أوضاع البلاد قبل 25 جويلية الماضي، سيجعل الرئيس سعيّد ماض في أجندته.
منصف السليمي
عن موفع DW