مقاربة جديدة لدعم المواد الأساسية
تطفو قضية دعم المواد الأساسية على سطح الأحداث هذه الأيام بسبب صعوبة المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي، والحال أنها قضية تعود إلى نهاية السبعينات من القرن الماضي وظلت على مدى أربعين عاما مرتبطة بالأزمات الاقتصادية الكبرى وحجر الزاوية في كل مفاوضات اجتماعية. لكن رغم تبدل أحوال العصر لم يغير أي طرف من أطراف المعادلة طريقة مقاربته القضية، وظللنا نتساءل: هل نلغي الدعم أم نبقيه؟ وكيف يمكن أن يوجه الدعم إلى مستحقيه؟
وفي هذا السياق يجري التفكير حاليا في تسويق المواد الأساسية بأسعارها الحقيقية، وتوزيع منح مالية على بعض الفئات الاجتماعية، كما يتضح من تصريحات عرضية لبعض أعضاء الحكومة، وهو الأمر الذي يتجه اتحاد الشغل إلى معارضته بقوة كما يبدو من تصريحات أمينه العام الذي أكد بوضوح أن رفع الدعم ينبغي أن يصاحبه مضاعفة الأجر الأدنى المضمون، ما ينذر باضطرابات اجتماعية مقبلة لا سيما في ظل الارتفاع المطرد لنسبة التضخم.
يعاب على الحكومة تناولها هذا الملف بمنطق الأرقام المجرّدة، وإغفالها الجوانب الاجتماعية والنفسية والسلوكية الحافة به،لأن أهمية الدعم تكمن أساسا في أنه لا يمرّ عن طريق جيب المستهلك.إذ لا شيء يضمن أن المواطن سيصرف المنحة التعويضية في الزيت والخبز والدقيق حصرا، لأن أولويات الاقتصاد المنزلي تتغير حسب الظرف، وقد تستحوذ الكراسات مثلا في موسم العودة المدرسية على كل الموارد العائلية، أو تضطر الأسرة إلى دفع كل ما لديها من سيولة نقدية لمواجهة طارئ صحي الخ…، وهؤلاء سيظلون دائما عاجزين عن مواجهة (الحد الأدنى) من متطلبات العيش رغم تمتعهم بالمنحة ولن تستطيع الدولة أن تفعل لهم شيئا في مواجهة الغلاء بعد أن سحبت يديها بهذه الطريقة من العجين!
من الواضح إذن أن آلية المنحة المالية رغم العبء الذي ستلقيه على الإدارة وما سينتج عنها من مظاهر مزرية على غرار الطوابير الطويلة أمام شبابيك البريد، هي الحل الأسهل لدى الحكومة، أو ربما هي الحل الوحيد في ظل عجز الدولة بكافة أجهزتها عن إيجاد حلول مبتكرة تحت سقف الالتزام بعدم ترك المواطن يواجه مصيره بمفرده أمام الغلاء الفاحش، والدعم يمثل جزءا من الدور الاجتماعي للدولة وبتخليها عنه ستتعمق الأزمة السياسية أكثر خصوصا مع تراجع مستوى كل الخدمات العمومية. وينبغي تقصي تداعيات انهيار المقدرة الشرائية في ظواهر أخرى أهمها ارتفاع معدل الجريمة وتفشي العنف لا سيما مع اتخاذ التفاوت الطبقي أشكالا استعراضية قاسية.
سيظل موضوع الدعم دائما الشرارة التي يمكن أن تشعل الفتيل، والسؤال الذي يفترض أن تتصدى له الحكومة بكل جدية هو كيف يمكن توجيه الدعم إلى مستحقيه دون المرور بجيب المواطن؟ ولا يمكنها توسيع هامش المناورة في هذا المجال دون استخدام الحوكمة الذكية، لأن العجز الذي تتخبط فيه حاليا وعدم قدرتها على تنويع طيف الحلول الممكنة يعودان أساسا إلى تخلف أدواتها وتعطل كل مشاريع التطوير التي طرحتها خلال العشرية الماضية بدءا بالمعرف الوحيد وصولا إلى بطاقة التعريف البيومترية.
لتجنب وضع المنحة التعويضية نقدا بين يدي مواطنين -قدّرت الدولة وحدها وبناء على معطياتها ومعاييرها غير المتفق عليها أنهم فقراء وفي أمس الحاجة دون غيرهم إلى الدعم- سنتخيل منظومة أخرى تُعرض فيها المواد الأساسية المدعومة في الأسواق بأسعارها الحقيقية كما تريد الحكومة وصندوق النقد الدولي، على أن يتسلم كل مواطن يتجاوز عمره الثامنة عشرة بطاقة بنكية تتضمن رصيدا ماليا،لكن خلافا لسائر البطاقات البنكية لا يمكن سحب الرصيد نقدا، بل هو مخصص للمواد المدعومة فقط، فعندما يقتني هذه المواد التي توضع عليها علامة واضحة من قبل البائع أو المصنع يستظهر بهذه البطاقة ليقع خصم نسبة الدعم من المبلغ الذي سيدفعه ومن رصيده. ويتجدد الرصيد آليا مطلع كل شهر. وله مدة صلاحية محددة.
من إيجابيات هذه الطريقة:
أولا: المساواة، فهي لا تحرم أحدا من الدعم ولا تقسم المجتمع الى فقراء وأغنياء، وكل مواطن يحمل الجنسية التونسية يحق له أن يمتلك بطاقة الدعم كما يمتلك بطاقة التعريف أو جواز السفر.
ثانيا: الترشيد، فهي تحدّد قيمة الدعم وتضع لها سقفا. حاليا لا توجد أي آلية تمنع المواطن من شراء ما يتجاوز حاجياته من المواد المدعومة، لهذا يقع تسريب الدعم الى المجال الصناعي، ويستخدم الدقيق المدعوم مثلا في المخابز العشوائية أو لصناعة المرطبات الفاخرة! كما يقع تحويل الزيت المدعوم بسهولة إلى الفطايرية وبائعي الفريكاسي والمطاعم ولا يراه المواطن في الأسواق أبدا! وعندما تصبح الكمية محددة في شكل رصيد سيجد المستهلك نفسه مضطرا أيضا إلى التحكم في نفقات أسرته وطريقة استهلاكه.
ثالثا: العدالة الاجتماعية، فالرصيد سيكون مختلفا من فئة إلى أخرى وفق معايير تضعها الإدارة وهكذا يكون رصيد البطاقة التي تسلم لرب العائلة مختلفا عن رصيد البطاقة التي يمتلكها غير المتزوج.
رابعا: المرونة: فالتصرف الالكتروني في المنظومة سيمكن من نقل الرصيد من بطاقة إلى أخرى (كما يحدث في بطاقات الهاتف)، ويمكن لمن لم يكن في حاجة لرصيده أن ينقله لمن هو في حاجة إليه.
خامسا: تعزيز الحوكمة الالكترونية، فالتعامل بالبطاقة لن يترجم الدعم إلى سيولة نقدية (كما سيفعل مشروع المنحة المقترحة) بل سيشحن الرصيد شهريا بطريقة آلية، وتوضع منصة تستخدم لتفقد الرصيد، ومعرفة ما صرف منه مفصلا، وما بقي فيه. ويستظهر الحريف بالبطاقة عند دفع المشتريات لخصم قيمة التعويض على المواد المدعومة الموجودة في سلته. ومن السهل في هذه الحالة باعتبار أن قائمة المشتريات مخزنة لدى البائع تتبع نسق الاستهلاك العام مع الحفاظ على المعطيات الشخصية، فربط البطاقة بالحالة الاجتماعية لحاملها يتوقف عند حدود الوزارة التي أصدرتها.
أما العراقيل التي قد تجعل البعض يشكك في إمكان تنفيذ مثل هذا المقترح فيمكن حصرها في أمرين:
أولا: هذه المنظومة صالحة لتجار التفصيل الذين يستخدمون نظام الفوترة والدفع الالكتروني فقط. ولتجاوز هذا العائق ينبغي تعميم هذا النظام وسيجد كل تجار التفصيل أنفسهم مضطرين لتطوير أدواتهم حتى يمكنهم البيع لمن يستظهرون بالبطاقة، وهو ما ستكون له انعكاسات إيجابية أيضا على نظام الاستخلاص الجبائي.
ثانيا: يبقى من الصعوبة بمكان استخدام مثل هذه المنظومة في الأرياف والمناطق النائية، لا سيما مع ضعف إمكانيات الشبكة الهاتفية وعدم قدرة بعض الفئات الاجتماعية على التعامل بمثل هذه الأساليب المتقدمة، وهم يمثلون نسبة مئوية ضعيفة ومن حيث المبدأ لا يمكن جعل الأقلية تتحكم في مستقبل الأغلبية، ولا يمكن أن نقبل بعدم تمتع المجتمع بثمار التكنولوجيا لأن قلة قليلة من أفراده يعانون من الأمية أو الفقر المدقع.
هل يمكن أن تقف هذه الصعوبات عائقا حقيقيا أمام وضع منظومة كهذه؟ لا نعتقد ذلك، فعمليات الانتقال الرقمي في عدة تجارب مقارنة تأخذ بعين الاعتبار الصعوبات المرحلية، وتبتكر لها حلولا خاصة في انتظار أن تستقر المنظومة البديل، ويمكن في هذا السياق تمكين من لا يستطيعون استخدام البطاقة (لأسباب موضوعية تصادق عليها وزارة الشؤون الاجتماعية) من الحصول على قيمة الرصيد نقدا على أن يكون هذا الوضع استثنائيا ومؤقتا.
*عامر بوعزة
صحافي تونسي ، الدوحة