اول الكلام

سنظل ملح هذه الارض…

 

كما كان متوقعا مع زيارة الحاكم التركي التي أعلن عنها الاتراك قبل مصالح رئاسة الجمهورية التونسية، تحركت الجينات العثمانية في عدد من الكتبة من رموز “الاعلام البديل” الذي تم التبشير به بعد 14جانفي، و محترفي السياسة وكثير منهم جاءت بهم رياح الثورة المباركة، ولم يجدوا افضل من بورقيبة مرمى لسهامهم، حتى بلغ الامر باحدهم وقد اصبح نائبا  للشعب بفضل تصويت بضع عشرات له في احدى الدوائر بالخارج، اي انه تحصل على اصوات تؤهله  مبدئيا ليكون كاتب عام نقابة اساسية في احدى دور الشباب مثلا ولكنه بالمعايير التونسية اصبح نائبا متمتعا بالحصانة وبجواز سفر ديبلوماسي،قلت ان الامر بلغ بصاحبنا   الى السؤال بسخرية عن اي سياسة خارجية لتونس متهما بورقيبة بانه كان تابعا لامريكا يقتفي خطاها

وغزت صفحات الفيسبوك  تدوينات الثوار الجدد متهمة بورقيبة بانه باع تونس بعد ان حررها الفلاقة

حين ارى تزاحم “الثوريين” وتهافتهم  بعد ثماني سنوات  من سقوط نظام بن علي استحضر ما رواه احد المقاومين عن بورقيبة حين تكاثر عدد طالبي جرايات “مقاوم” بعد الاستقلال  ، اذ قال” المجاهد الاكبر” “لو كان كل هؤلاء مقاومين لما استمر استعمار فرنسا لبلادنا  اكثر من سبعين عاما”

لم اعد استغرب شيئا في بلادي ولكن الصمت ازاء المغالطات واستغفال الراي العام ومحاولة التلاعب بالعقول جاوز المدى

لا اكتب دفاعا عن بورقيبة فهو في ذمة التاريخ وهو من قبره اقدر مني على الدفاع عن نفسه بما تركه في بلاد حكمها ثلاثين عاما

ولكني انبه الى خطورة تزييف تاريخنا عن جهل وغفلة او من قبيل لي عنق التاريخ لخدمة اغراض قصيرة المدى تضمن  ربطة عنق انيقة وساعة ثمينة “بوبلاش”  واستضافة في برنامج وحش الشاشة ومداخلات نارية تبثها القناة الثانية من رحاب قصر باردو

لقد شكل بورقيبة اول حكومة له في 14 افريل 1956 بصفته رئيسا للوزراء  واول ما قام به هو عزل  المندوب السامي الفرنسي والقائد الاعلى للقوات الفرنسية في تونس من منصبيهما بوصفهما وزيرين للخارجية والدفاع

اتخذ بورقيبة هذا الاجراء على الرغم من التاويل الفرنسي لاتفاقيات الاستقلال التي  نصت على دخول فرنسا وتونس في مفاوضات بغرض بلورة ارتباط متبادل تقود الى تعاون مشترك وخاصة في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية  وتم ضبط تاريخ 16افريل موعدا لبداية هذه المفاوضات

ومنذ 18جوان 1956 دعا بورقيبة الى الجلاء التام للقوات الفرنسية  وتمكن بورقيبة  عن طريق مفاوضات مضنية من اوت الى اكتوبر 1961 من حمل فرنسا على تسليم جهاز الشرطة  الى السلطات التونسية  وفرض حق تونس في مراقبة الحدود الجزائرية التونسية

وتمكن بورقيبة  من التوصل الى اتفاق يقضي باقتصار الجيش الفرنسي على ست قواعد عسكرية في تونس ورفض التفاوض بشان دفاع مشترك قبل الجلاء الكامل عن تونس

كانت بوصلة بورقيبة في السياسة الخارجية هي مصلحة تونس، دون التخلي عن الدفاع عن قيم الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها و سيادة الدول ورفض اي اعتداء مهما كان مصدره،

فقد كانت تونس من اول الدول العربية التس ساندت الكويت عندما اعلنت استقلالها ، استقلال رفضته العراق على اساس ان الكويت كانت زمن العثمانيين ملحقة بقضاء البصرة

كما اعلنت تونس اعترافها باستقلال موريتانيا ساعات بعد اعلان الاستقلال في 28نوفمبر 1960 رغم اعتراض المملكة المغربية  ورفض جامعة الدول العربية نفسها

ولم يتردد بورقيبة في ادانة العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس  وارسل الى الجمعية العامة للامم المتدة احتجاجا شديد اللهجة  

 

ولنستعد  ولو سريعا مواقف بورقيبة من القضية الفلسطينية،   ففي 18جويلية 1964  وفي مؤتمر منظمة الوحدة الافريقية بالقاهرة تهجم بورقيبة على قادة دول افريقيا السوداء بسبب لامبالاتهم تجاه الموقف العربي  من الاحتلال الاسرائيلي

وفي فيفري 1965 بدا جولة في الشرق قام خلالها بزيارة رسمية لاغلب عواصم الشرق الادنى 

وبعد زيارته لمصر انتقل بورقيبة الى الاردن  وفي 3مارس 1965 القى خطابه الشهير في اريحا  واعرب عن استعداد تونس وضع خبرتها في كفاحها من اجل التحرر  واشار الى ان سياسة كل شي او لا شيء قادت فلسطين الى الهزيمة

وهو الموقف نفسه الذي اعاده في خطاب له في القدس بعد يومين من خطاب اريحا مبرزا ان قضية فلسطين ليست قضية بين اليهود والعرب وانما قضية العدل والحرية  وهي قضية الانسانية جمعاء

بطبيعة الحال لاقت مقترحات بورقيبة صدا عنيفا من نظام عبد الناصر واذرعه الاعلامية في كل الدول العربية ، وها اننا نجني اليوم الثمار المرة لسياسة المكابرة ورفع الشعارات الجوفاء، خسرنا الارض وخسرنا التعاطف الدولي مع قضايانا وبتنا موسومين بالارهاب والتطرف

لقد كانت السياسة الخارجية التونسية غداة الاستقلال  تتميز بضرورة مواصلة سياسة التحرر من الاستعمار ، ولم يتردد بورقيبة  في استقبال الزعيم نلسن مانديلا عام 1962 ومنحه جواز سفر ديبلوماسي تونسي هو ورفاقه في المؤتمر الوطني الافريقي ،وقدم لهم المساعدات المالية لاقتناء الاسلحة كما تثبته وثائق الخارجية التونسية ، كما دعم الثوار في الكونغو بارسال قوات تونسية في اطار اممي، وكانت القوات التونسية  اول قوات اممية وصلت الى الكونغو بقيادة الكولونيل الاسمر بوزيان – اصيل قابس- ومن بين الضباط التونسيين  المشاركين الحبيب عمار- تقلد منصب وزير داخلية اثر 7نوفمبر 1987- و  حميدة الفرشيشي الذي كان يتحدث لغة السكان المحلية مما اكسب  القوات التونسية الثقة  

وكان سفيرنا في الكونغو انذاك البشير القبلاوي_اصيل قبلي ولعله السفير الوحيد اسود البشرة ، اصبحت ابنته لاحقا سفيرة تونس في مالطا – ومساعده مصطفى تقية الذي استشهد في حادث طائرة في الكونغو مع كاتب عام الخارجية الزين المستيري

من كانت روحه متعلقة برجب الطيب فما عليه سوى اقتناء تذكرة ذهاب الى اسطمبول وهي دون فيزا، ولينعم بخيرات الباب العالي، ولن نكون له من الحاسدين،

وسنظل ملح هذه الارض …

*محمد بوغلاب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.