ثقافة وفنون

أسوار

_ أبي هل يمكنني أن أسألك سؤالا

_ نعم تفضل

_ لماذا لا تحبني؟

_ اقترب، سأجيبك بسؤال: هل يفرض علي القانون أن أحبك؟

_ لا

_ لماذا في رأيك أنهض يوميا في السادسة صباحا، أعمل بكد حتى تأكل وتشرب وأوفر لك السكن الآمن؟

_ لأنك تحبني

_ لا، لا أفعل ذلك لأنني أحبك، بل لأن الواجب يقتضي ذلك… أنت ابني وأنو والدك مطالب برعايتك وتوفير حاجياتك حتى يشتد عودك، وتغادر هذا المنزل… وحتى ذلك الوقت عليك أن تكف عن طرح مثل هذه الأسئلة…

كان هذا مقتطف من فيلم “أسوار” (fences) من إخراج وبطولة “دنزل واشنطن” الذي عرض منذ أشهر ومازال يغري بالكتابة عنه

فيلم ل”دنزل واشنطن” يعني بالضرورة فيلم ممتع، وإن غابت جميع عناصر الإمتاع فآداء هذا الممثل لا يمكن أن يسقط أبدا… ساحر أمام الكاميرا… مخلص لعمله، ويفاجؤك في تصريحاته القليلة بأن التمثيل يأتي في المرتبة الثالثة في اهتماماته بعد المسرح والإخراج، وتزعجه الشهرة كثيرا ولا يعرف كيف يتعامل مع معجبيه

راقب “واشنطن” الجدل الذي احتد العام ما قبل الماضي حول غياب السينمائيين من أصول إفريقية عن ترشيحات الأوسكار، ولم يعلق بأي تصريح، لكن رده جاء سينمائيا من خلال فيلم يحرك السكين في جرح العنصرية الأمريكية، وبتجربة فرضت بتميزها الترشح للجوائز الرفيعة… هكذا كان رد “دنزل واشنطن” بلا تصريحات ولا تهديدات مسبقة… غامر بتحويل واحدة من أهم الأعمال الروائية ثم المسرحية “أسوار” إلى فيلم وكانت الرواية التي قدمت على مسارح برودواي سنة 1983 قد حققت نجاحا كبيرا بعد عرضها على مسارح كثيرة في الولايات المتحدة، وفازت بجائزتي توني وبوليتزر للدراما سنة 1987، ثم أعيد إنتاجها في 2010 من بطولة “دنزل واشنطن” و”فيولا ديفيس” ليجتمعا مرة أرى كثنائي في منتهى الانسجام عند تحول الرواية والمسرحية إلى فيلم

الحوار بين “تروي” (دنزل واشنطن) وابنه الذي عرض في الومضة الإشهارية وافتتحنا به البطاقة، كان مؤذيا، والفيلم أيضا يهزك من الأعماق على الرغم من أنه لم يتحرر نهائيا من العمل المسرحي، إذ اعتمد “واشنطن” في إخراجه على الفضاء الواحد ومحيطه ليس بمعنى الويكلو وإنما بمعنى الركح الذي تجري فيه كل أحداث الفيلم، فأغلب المشاهد صورت في منزل “تروي” و”روز” والحديقة ومحيطهما القريب جدا، لكن الفيلم لا يستند إلى أحداث كبرى، ولا يصور الصراع العنصري في شكل مواجهات في الشارع أو مرافعات في المحاكم… في “أسوار” نحن أمام فيلم مبني على الشخصيات وصراعاتها النفسية في فترة الخمسينيات: “تروي” مواطن أمريكي من أصول إفريقية، يعمل في رفع القمامة ويحتج على استحواذ البيض بقيادة السيارات مقابل رفع السود للقمامة، ويقابل احتجاجه بتمكينه من قيادة السيارة ليكون أول مواطن امريكي من أصول إفريقية يفعل ذلك، كان الإنجاز البسيط كبيرا بالنسبة إليه فهو لم ينس أنه لاعب مهم في رياضة “البيسبول” لكنه أقصي ولم ينل فرصته لأنه أسود البشرة، وهذا ما دفعه إلى منع ابنه من ممارسة الرياضة، خوفا عليه من الإحباط

نجح “تروي” في التغلب على كل شيء في حياته… خاض معارك تبدو بسيطة ولكنه نجح دائما في تحقيق بعض الانتصارات: رجل مستقيم، يعمل بكد، قرر خيانة زوجته التي يحبها بحثا عن لون آخر لحياته ونجح، تغلب على مشاعره كأب… وحده الموت كان أشرس منه… واجهه ببناء سور حول منزله على أمل أن يمنعه من التسلل إليه وإلى عائلته… ولكنه توفي في النهاية مخلفا أشياء كثيرة لم يكتشف أحد أهميتها إلا بعد مماته… لم يكن قاسيا كما يبدو أحيانا، ولا أنانيا… كان فقط يقاوم من أجل تخطي أسوار العنصرية التي ضيقت عليه فضاء حياته

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.