اول الكلام

ليبيا ما قبل حفتر وما بعده

بقلم رشيد خشانة

ولجت ليبيا مرحلة جديدة مع غياب المشير خليفة حفتر (75 عاما) عن المسرح السياسي، والذي قاد «عملية الكرامة» في العام 2014، مُكرسا الانقسام الحالي بين شرق وغرب. استطاع حفتر أن يجمع في قبضته أوراقا مهمة في الصراع الليبي – الليبي، من بينها التحكم في البرلمان (مقره في طبرق- شرق) ورئيسه عقيلة صالح، والسيطرة على الحكومة المؤقتة غير المعترف بها دوليا (مقرها في البيضاء- شرق) برئاسة عبد الله الثني، وهذا ما جعله يُعتبر الرجل القوي في شرق ليبيا.
شكل حفتر أهم عقبة أمام التقارب بين مجلس الدولة في غرب البلد ومجلس النواب في شرقه، فهو الذي دعا في ديسمبر الماضي حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج إلى التنحي مُستندا على بنود اتفاق الصخيرات، الذي لم يُصدق عليه هو. وحقق نصرا كبيرا بسيطرته على الهلال النفطي، حيث أخرج منه ميليشيا حراس المنشآت النفطية بقيادة ابراهيم الجضران، وبات يُحكم قبضته على منابع النفط، الذي يُؤمن أكثر من 95 في المئة من الدخل الوطني الليبي. أكثر من ذلك، استطاع حفتر، الذي سماه برلمان طبرق قائدا عاما لما تبقى من الجيش الليبي، أن يفرض سيطرته على الجنوب، وصولا إلى مدينة سبها عاصمة إقليم فزان، بعد سنوات من غياب الدولة عن هذه المنطقة. ومع تعاظم دوره اتجهت العواصم الإقليمية والدولية المؤثرة في الملف الليبي إلى مغازلته، بعدما ضمن مراهنة كل من مصر والإمارات والسعودية والأردن عليه، مُعتقدين أنه الحصان الرابح في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الأهلية. ونسجت موسكو علاقات متينة مع الضابط الذي سبق أن تلقى دورة عسكرية في روسيا في سبعينات القرن الماضي، واعتبرته أكبر حلفائها في شرق المتوسط، بعد الرئيس السوري بشار الأسد، حتى أنها أرسلت حاملة الطائرات الأدميرال كوزنستوف إلى سواحل بنغازي لاستقباله على متنها. وزار حفتر موسكو مرارا واجتمع بشكل منفصل مع كل من وزيري الدفاع والخارجية والأمين العام لمجلس الأمن القومي.
أما فرنسا فساندت هي أيضا رجل الشرق القوي سياسيا وعسكريا، إذ بوأه رئيسُها إيمانويل ماكرون مرتبة مساوية لرئيس حكومة الوفاق فائز السراج، عندما جمعهما في باريس في تموز/يوليو 2017، ما جعل مُحللين فرنسيين يُعلقون بأن باريس تعتبر السراج أقوى رجل سياسي وحفتر أقوى قائد عسكري في ليبيا. وأماطت حادثة سقوط طائرة فرنسية في مواقع حفتر اللثام عن الدعم العسكري الفرنسي المباشر لقوات الرجل الذي ترى فيه باريس أهم سد أمام تمدُد الجماعات الأصولية المسلحة إلى شرق ليبيا. وأسفر سقوط الطائرة العسكرية عن وفاة ثلاثة خبراء عسكريين فرنسيين كانوا على متنها. واضطرت إيطاليا غريمة فرنسا والداعمة للجماعات المتشددة في غرب ليبيا، إلى دعوة المشير المُثير للجدل إلى زيارة روما. ونسجت كل من الجزائر وتونس على منوال روما وباريس فاستقبلتاه استقبال كبار رجال الدولة. وزادت مكانة حفتر لدى حلفائه الاقليميين والدوليين بعدما أعلن في جوان الماضي أنه «طهَر» بنغازي من الجماعات المتشددة. إلا أن الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، وصف المدينة في إحاطته أمام مجلس الأمن يوم 21 مارس الماضي، بعد زيارته لها، بأنها غابة من الركام. وكان حفتر يسعى من خلال حربه على الجماعات الأصولية المتشددة، لإقناع الروس والفرنسيين والإماراتيين والمصريين بكونه صنو الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي وأنه يقتفي أثره في ليبيا، وذلك من أجل تحصيل المزيد من الدعم المادي والسياسي.
غير أن تلك الارتباطات الدولية المتشابكة للمشير جعلت الجارين الغربيين الجزائر وتونس يُحجمان عن تطوير العلاقات معه، بالرغم من دعوته لزيارة البلدين والحفاوة التي لقيها منهما. ويمكن القول إن تضارب مواقف البلدان الثلاثة مصر والجزائر وتونس منه، هو ما أحبط المبادرة الثلاثية التي أطلقوها للمساهمة في تسوية الصراع الليبي سلما.
من الصعب اليوم إيجاد قائد عسكري أو زعيم سياسي في المنطقة الشرقية يحلُ محل حفتر، ويُحافظ على الإرث الذي جمعه من العلاقات الدولية والاقليمية، لذلك سيكون الصراع شديدا بين الورثة الذين يُصنفون إلى فرعين الأول أسري/ قبلي يخص قبيلة الفرجان التي ينحدر منها حفتر، ويمثله نجلاه خالد وصدام وابن عمه اللواء عبد السلام الحاسي، قائد العمليات في رئاسة الأركان، والذي رفض تولي منصب وزاري في 2016، مُفضلا البقاء إلى جانب المشير. ويستمد الحاسي أهميته في سباق الخلافة من علاقاته مع الحلف الأطلسي، إذ كان ضابط الاتصال مع الحلف أثناء الانتفاضة الليبية في 2011.
أما الفرع الثاني فيمثله المنحدرون من المؤسسة العسكرية، وتحديدا من الدائرة الضيقة لمساعدي المشير، وفي مقدمهم رئيس الأركان اللواء عبد الرازق الناظوري، وهو الضابط الأعلى رتبة في جيش حفتر، إلا أن الأسرة تعترض عليه بسبب علاقاته المتوترة معها. ورجح محللون أن تكون محاولة الاغتيال التي تعرض لها الناظوري تعكس رغبة الجناح الأول من الورثة المفترضين بالتخلص من منافس قوي. وهناك أيضا صقر الجاروشي رئيس أركان القوات الجوية، الذي يرتبط بعلاقة متينة مع حفتر. من هنا يبدو مصير الجيش، الذي بناه حفتر من بقايا القوات النظامية السابقة ومجموعة من الكيانات المسلحة والقوى القبلية، غامضا ومهددا بالتفكك جراء المعركة الضارية على الخلافة. وهذا الصراع هو الذي سيدفع الرُعاة الإقليميين والدوليين إلى التدخل من أجل فرض الخليفة المفضل، إن كان هناك طبعا توافقٌ على اسمه.
وستُحدد هوية القائد المقبل لـ«الجيش الوطني الليبي» طبيعة التعاطي المحتمل مع تيارين سياسيين هما أنصار النظام السابق وأعضاء التيار السلفي المتشدد المعروف بـ«المدخليين». وتزداد العلاقة المستقبلية مع هذين التيارين أهمية في أفق الانتخابات الرئاسية التي قررت الأمم المتحدة إجراءها قبل نهاية العام، والتي كان حفتر يُعتبر من المرشحين البارزين لها، ما أحدث فراغا بعد تنحيه عن القيادتين السياسية والعسكرية. وبالنظر إلى أن الصراع المرير بين حفتر ومعمر القذافي ارتدى بُعدا شخصيا، منذ ثمانينات القرن الماضي، فالأرجح أن ورثة المشير سيجدون سهولة في التعاطي الايجابي مع التيارين. وما يُسهل الانسجام مع المدخليين أنهم يدعمون أولي الأمر في جميع الظروف، ما سيجعلهم يُبايعون على الأرجح من سيُسمى خليفة لحفتر. ومع انزياح كابوس الخوف، وإن جزئيا، بابتعاد قائد «الجيش الوطني» عن موقع القرار، سيكون التقارب أيسر أيضا بين مجلس الدولة في غرب البلد ومجلس النواب في شرقه.
على أن ما يهمُ القوى الدولية في المعركة على خلافة حفتر هو استمرار تدفق النفط والغاز وبقاء الهلال النفطي بين أيدي طرف قوي يضمن الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في المنطقة الشرقية. وتحرص القوى الإقليمية من ناحيتها، وفي مقدمها مصر والإمارات، على استمرار التعاقد بينها وبين التيار الذي ستستقرُ له الأمور في معسكر حفتر، ما يتيح لها سيطرة غير مباشرة على القسم الشرقي من البلد. أما من سيبقى متحفظا عن الخوض في معركة خلافة حفتر، فهو المجتمع المدني والقوى السياسية المدنية في المنطقة الشرقية، التي عانت من «الضبط الأمني» لمخابرات الرجل القوي السابق، بعدما حكمها بقبضة حديدية طيلة السنوات الأربع الماضية. وظهرت آثار القبضة الشديدة في احتجاب غالبية الصحف التي كانت تصدر في المنطقة الشرقية وهجرة المحطات الإذاعية والتلفزيونية إلى الخارج، بالإضافة لدخول منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية في مرحلة تراجع وتفكك، لم تكن تعرفها في السنوات التي أعقبت انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011. بهذا المعنى يمكن التكهن أن هناك ما قبل حفتر وما بعده على صعيد استعادة مربع الحريات في بنغازي، التي كانت مهدا للانتفاضة على القذافي، وموئلا لحركات المعارضة منذ بواكير القرن الماضي.
[metaslider id=2149]
وبالرغم من غموض الوضع في المنطقة الشرقية، فإن بعثة الأمم المتحدة ستجد نفسها تعمل على تفادي أي صدع قبلي في تلك المنطقة، قد يؤدي إلى تفكيك التوازنات القبلية الهشة، التي كان يُديرها حفتر، والتي يشكل سقوط أي حجر منها في المستقبل إشارة سلبية إلى احتمال اهتزاز الاستقرار الأمني وتعطيل المسار الانتخابي بأكمله، علما أن قبيلة حفتر الفُرجان تعتبر أقلية في الشرق، وهي آتية من غرب ليبيا. قُصارى القول إن البلد برمته في صدد الانتقال من حال إلى حال، بحكم التغيير الكبير في عناصر اللعبة، مع ابتعاد أحد اللاعبين الكبار والمرشحين البارزين للانتخابات الرئاسية عن المشهد. لكن القوى الدولية والإقليمية سيكون لها دورٌ بالغ الأهمية في ضبط مسألة الخلافة ومعاودة ترتيب الأوضاع في ظل المُتغير الجديد.
المصدر القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.