اول الكلام

عزوفٌ عام عقابا للأحزاب: المستقلون يتفوقون على الأحزاب في الانتخابات المحلية التونسية

رشيد خشانة: القدس العربي

في نتائج غير متوقعة، أتى المستقلون في مقدم الفائزين في أول انتخابات محلية أجريت في تونس بعد ثورة 2011 الأحد الماضي. وتخطى عدد المقاعد التي حصدتها لوائح المستقلين عدد المقاعد التي فاز بها الحزبان الكبيران في البرلمان «النهضة» و«نداء تونس». وجرت الانتخابات طبقا لنظام اقتراع يعتمد على النسبية. وحسب النتائج التي أعلنت عنها الهيأة العليا المستقلة للانتخابات، حصد المستقلون 32.75 في المئة من المقاعد، فيما حصل حزب «النهضة» على 28 في المئة وحزب «النداء» على 21 في المئة من المقاعد. وبالرغم من أن كثيرا من اللوائح المستقلة تقف وراءها أحزاب، بما فيها الحزبان الشريكان في الحكومة الحالية، منحت النتائج هامشا واسعا للمستقلين للتحكم بالمشهد في المجالس البلدية، أو في الأقل لعب دور الحكم بين الأحزاب المتصارعة على المواقع.
وترتدي المجالس البلدية، التي يبلغ عددها 350 أهمية متزايدة بعدما سن البرلمان أخيرا قانون الحكم المحلي الذي سينقل البلد إلى مرحلة اللامركزية ويمنح البلديات والمجالس الجهوية والأقاليم دورا محوريا في التنمية. وتعود آخر انتخابات بلدية في تونس إلى السنة 2010، وتمت الاستعاضة عن حل المجالس التي انتُخبت في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بلجان مؤقتة سرعان ما ظهر عجزها عن إدارة الشأن المحلي، ما أدى إلى انفلات عام تسبَب بتدهور البيئة وتراجع البنية الأساسية وانتشار البناءات الفوضوية.
والظاهر أن الحزبين اللذين فازا بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (2014) ناما على آذانهما، مُعتقدين أنه لا أحد يستطيع أن يُزحزحهما عن موقعيهما، خاصة بعدما عقدا تحالفا قاد الحكومات المتعاقبة طيلة السنوات الأربع الأخيرة. غير أن نسبة العزوف عن المشاركة في الاقتراع تدعو إلى القلق، وكانت لافتة وغير مسبوقة منذ 2011 إذ لم تتجاوز 21 في المئة ممن يحق لهم التصويت، و37 في المئة من المسجلين على لوائح المقترعين. وعزا محللون ارتفاعها، وخاصة في صفوف الشباب، إلى إخفاق الحزبين المُؤتلفين في إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يتخبط فيها البلد، ولاسيما تأمين فرص عمل لخريجي الجامعات. وبهذا المعنى عاقب الشباب الأحزاب الحاكمة بالسلب لم تكن رُبما تتوقعه، أو تتوقع أن يكون بذلك الحجم. لكن العقاب لم يقتصر على الحزبين المُؤتلفين، وإنما طال أيضا كل النخبة السياسية، التي غرقت في المهاترات والتجاذبات والصراعات العقيمة فيما البلد يغرق في الأزمات يوما بعد آخر. من هذا المنظور تعاطى الشارع مع جميع الأحزاب بالرفض نفسه، إذ لم تُحول الأصوات التي خسرتها الأحزاب الحاكمة إلى أحزاب المعارضة، التي حصدت نتائج هزيلة. في المقابل، حققت لوائح المستقلين الذين لا تتخفى وراءهم أحزابٌ، اختراقات لافتة في عدة بلديات، ففي بلدية أريانة شمال العاصمة حلت في المرتبة الأولى لائحة مستقلة قادها العميد السابق لكلية القانون فاضل موسى، الذي كان عضوا في المجلس التأسيسي، بنسبة 39 في المئة. وفي ضاحيتي رادس والزهراء جنوب العاصمة، حصدت لائحتان مستقلتان على الرتبة الأولى بأكثر من 34 في المئة، فيما تفوقت لائحة مستقلة في بلدية المرسى على الأحزاب وحصدت 35 في المئة من الأصوات.

[metaslider id=2149]
وأبصرت بلدية العاصمة تجاذبا شديدا بين الأحزاب على منصب الرئيس بين مرشحة «النهضة» سعاد عبد الرحيم ومرشح «النداء» كمال إيدير والمرشح المستقل منير بن ميلاد. وينظر التونسيون إلى منصب عمدة العاصمة على أنه بوابة لأدوار سياسية، أسوة برئاسة جاك شيراك بلدية باريس ورجب طيب أردوغان بلدية اسطنبول، قبل صعودهما إلى سدة الرئاسة. لكن الحزبين الأولين خسرا كثيرا من مؤيديهما في هذه الانتخابات، إذ تخلى عنهما نحو مليون ناخب (لكل حزب) بعد أربع سنوات عجاف. على أن هذا الانحسار غير المسبوق لا يعني بالضرورة توسُعا لمواقع المستقلين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة للعام المقبل. ولا يشكل المستقلون قوة سياسية وتنظيمية حقيقية على الأرض لأنهم لا يملكون رؤية موحدة، ولا آلة تعبئة تغطي كامل محافظات البلد، إذ أن طبيعة الانتخابات المحلية مختلفة عن الانتخابات البرلمانية. ويقضي الدستور أن يُكلف رئيس الدولة الحزب الأول الفائز في الانتخابات بتشكيل الحكومة، لكنه لا يستطيع أن يطلب ذلك من مستقلين في حال فوزهم بالأكثرية العام المقبل.
ومن بين مخرجات الانتخابات المحلية، انطفاء ثلاثة أحزاب عريقة كانت تلعب أدوارا سياسية متفاوتة في ظل النظام السابق، وهي حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا)، التي غيرت اسمها إلى «المسار الديمقراطي الاجتماعي»، وهي لم تقدم لوائح في أي دائرة، إذ اكتفى أمينها العام سمير الطيب بمنصب وزير الزراعة، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي عارضت الرئيس حبيب بورقيبة واندثرت في السنوات الأخيرة، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، الذي أسسه رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر، قبل أن يعتزل العمل السياسي أخيرا، وقد كان غائبا أيضا من الاستحقاق الانتخابي الأخير. ويجوز القول إن المشهد السياسي أبصر تغييرات كبيرة، إذ تفكك حزب رئيس الجمهورية «النداء» وتشظى إلى أربعة أحزاب، فيما ما زال حزب «النهضة» يبحث عن الخط الفاصل بين السياسي والدعوي، وخسر «الحزب الديمقراطي التقدمي» كثيرا من قيادييه وكوادره بعد تحوُله إلى «الحزب الجمهوري»، فيما ما زالت الأحزاب المؤتلفة في إطار «الجبهة الشعبية» (يسار) تُفتش عن حزام شعبي. واللافت أن 14 حزبا شاركت في الانتخابات ولم تحصد مقاعد لأنها أعطيت أصواتا تقل عن 1 في المئة. وبلغ عدد الأحزاب المرخص لها في تونس 212 حزبا، غير أن الأحزاب التي تتمتع بحضور حقيقي على الأرض لا تتجاوز عشرة أحزاب. والأرجح أن نتائج الانتخابات المحلية ستُلقي بظلالها على الانتخابات المقررة للعام المقبل، وهو ما سينعكس حملات تطهير وصراعات بين أجنحة تتبادل الاتهامات بالتقصير وتتنازع على المواقع، ما سيزيد من ضعفها وعزلتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.